بين الانتفاضة الأولى و"جمعة الغضب".. فلسطينيون يروون قصص مواجهة الاحتلال
كتب-دعاء الفولي وإشراق أحمد:
بين اليوم والأمس أحداث كثيرة مر بها الفلسطينيون، شهداء قضوا، وجرحى وأسرى في سجون الاحتلال الجاثم. لكن الانتفاضة الأولى التي بدأت في 8 ديسمبر 1987 كان لها خصوصيتها، فيها استخدمت إسرائيل صنوف التضييق على أهل البلد، أغلقت المدارس، حاصرت البيوت وسجنت الشباب، وبعد خطاب ترامب، عاد شبح الانتفاضة مجددًا، بعد الدعوة للخروج في "جمعة الغضب"، فيما مازال الذي شاركوا بالانتفاضة الأولى على عهد النضال باقون.
في شارع الإرسال المؤدي إلى حاجز بيت إيل الإسرائيلي شمال رام الله، علا الهتاف "أوسلو ولى وراح بدنا نكمل الكفاح". بين الجموع هتفت عبير موسى، أمس، كما فعلت بالسابق قبل 30 عامًا. لكن حينها كانت في نابلس، شمال الضفة الغربية، تدرس بالسنة النهاية لها في جامعة النجاح الوطنية.
حين اندلعت الانتفاضة الأولى، بشرارة مقتل 4 من العمال وإصابة أخرين على يد سائق إسرائيلي في غزة. حال جميع الفلسطينيين ما كانت تخلف عبير ميعاد الهبة الشعبية، خرجت بين صفوف الطلاب منادين بتحرير موطنهم الذي كانت إدارته بالكامل تحت قبضة الاحتلال.
"كنت صبية والواحد بيتحمل. كان الاحتلال يضرب قنابل الغاز المسيل الدموع نمسك فيها ونرميها عليه ونزيد عليه بالحجارة" تتذكر السيدة الخمسينية بينما تبتسم بالحديث عن عودتها من مسيرة رام الله باكرًا لعدم احتمالها للغاز الذي كثفت قوات الاحتلال إطلاقه على الجموع قبل بلوغهم الحاجز الإسرائيلي.
قبل ثلاثين عامًا قررت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إغلاق جميع المدارس والجامعات. لمدة عامين حُرم الفلسطينيون من الدراسة، فيما أعلنت أمس وزارة التعليم الفلسطينية إضراب كافة هيئاتها للاحتجاج، وإن لم يحدث كانت مديرة مدرسة بنات بلعين الثانوية لتخرج بطلاب مدرستها في مسيرة كما تقول.
عهد الفلسطيني أن يُخضع الحياة بإرادته لا بأمر المحتل؛ "طولت الانتفاضة" حسبما تحكي عبير، كانت الشابة وقتها عادت إلى جنين، مدينتها التي نشأت فيها، ولا تبعد كثيرًا عن نابلس حيث توقفت عن الذهاب لدراستها حتى العام 1989، فأتمت السيدة زواجها، حال البعض في ذلك الوقت، لتختلط زغاريد زفاف الشهداء باستقبال مواليد جدد ودماء تُضخ في قلب الانتفاضة "ولدت بنتي عام 90 وأقل من سنة كملت دراستي".
كان ذلك قبل عام من بدء المحادثات السرية في أوسلو-النرويج- بين منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات وإسرائيل بممثلها شيمون بيريز –اتفاق أوسلو 1993، وقتها عكفت عبير على حياة جديدة من رحم الانتفاضة.
امتهنت عبير التدريس حتى بلغت منصب مدير مدرسة، بعدما انتقلت إلى رام الله، عقب قرابة 4 أعوام من إعلان الحكم الذاتي الفلسطيني في الضفة وغزة، لظروف عمل زوجها، ولأن رام الله صارت مركز كل الجهات الرسمية الفلسطينية.
"وقت الانتفاضة الأولى كنا تحت إدارة الاحتلال إنما الوضع الحالي معقد أكثر مش عارفين كيف راح يصير" تقول عبير، معربة عن حيرتها بشأن الجزم بأن ما تشهده فلسطين بعد اعتراف أمريكا بإسرائيل يمكن وصفه "بالانتفاضة".
صغار الحجارة
وفي غزة، رغم مرور نحو ثلاثين عامًا لازال سلمان أبو ناموس يتذكر وجه الجندي الإسرائيلي الذي أصابه بينما هو في السادسة من عمره؛ في المنطقة ذاتها التي يتجمع فيها أهل مخيم جباليا منذ أول أمس صارخين بالهتاف بعروبة القدس، أمسك أبو ناموس مع رفاقه حجارة صغيرة كأعمارهم. جميعهم هرعوا من المدرسة إلى نقطة "الترانس" حيث كان يتواجد مركز شرطة تابع للاحتلال.
"أول طلقة في الانتفاضة وأول حجر اترمى على اليهود كان من مخيم جباليا في هاي المكان" يقول الرجل الثلاثيني بينما يصف مشهد إصابته بطلق ناري.
محاولاً الاختباء خلف عمود إنارة، جلس الجندي المدجج بالسلاح في وضع القنص، مصوبًا إياه نحو حاملي الحجارة، لا فرق في ذلك بين طفل وكبير، فالقابض على البندقية يخشى من جمر الحجر.
أمتار قليلة كانت تفصل بين أبو ناموس وجندي الاحتلال، فما تقدم الصبي لـ"يطبش" الجنود بالحجارة حتى سقط أرضًا "جات لي رصاصة في جنبي"، فحمله الشباب الأكبر عمرًا في سيارة إسعاف، مكث بعدها أسبوعًا في المستشفى، وحين خرج أعاد الكرة، ويتذكر محاولات أسرته لاحتجازه في المنزل خشية عليه "لكن كنا نلاقي شي نهرب منه ونروح على اليهود".
إصابة أبو ناموس حينها كانت بمثابة فخر رغم كونه الابن الوحيد لأسرته بين 4 شقيقات "احنا اتخلقنا بفلسطين على هاي المقاومة"، يبتسم الرجل الثلاثيني بينما يقول إن ابنه الكبير علي توجه بالأمس، إلى ميدان "الترانس" للتظاهر مع أهل غزة والهتاف بعروبة القدس دون إخباره كي لا يمنعه.
لم تعد غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي، لكن الحصار المفروض منذ عشرة أعوام ما منع أهلها لاسيما جباليا من الخروج، حتى أن الأجواء ذكرت أبو ناموس بما قد مضى "إشعال إطارات السيارات.. السما السودا والتجمعات والهتاف.. حسيت أني في الانتفاضة رسمي".
وكما كان خروج غزة عفويًا بعد مقتل العمال عام 1987، لملم أهل القطاع المحاصر شتات أزماته، تناسى انقطاع الكهرباء، وجرح الحرب الذي لم يلتئم بعد وسارعوا تلبيةً لدعوة أخذت مكبرات المساجد كما يقول أبو ناموس، تشحذ بها الهمم للانتفاض وإثبات الوجود وأن "القدس وفلسطين لشعبها".
"القدس لنا"
وفي القدس. لا يبدو سعيد أبو خضير، صاحب الـ48 عامًا متفائلًا بما أسماه "الهبّة الشعبية" الحالية، يثق القاطن بمنطقة شعفاط الواقعة شرق القدس بأهلها "بعرف إنه الفلسطينيين دمهم كتير حامي على أرضهم"، لكن اختلاف الظروف السياسية والاجتماعية يمنع قيام انتفاضة أخرى، كالتي عايشها منذ 30 عامًا.
كان أبو خضير حينها في الثامنة عشر من عمره وقت اندلاع التظاهرات "شفنا أشياء عظيمة فعلها الشعب"، لا تتوقف فقط على إلقاء الحجارة ومضايقة جنود الاحتلال، بل ترتبط بتعاونهم سويا "كانت أمي تحمي في منزلها الشباب اللي بيجري وراهم الاحتلال واحنا لو رحنا نطبش على الجنود في منطقة بعيدة بيحمونا أهلها"، يتذكر تلك الأيام بحسرة، يقول "كان في عنّا تكاتف.. إذا واحد بيته خالي من الأكل بنروح نوديله.. الظروف السيئة كانت مجمعانا سويا".
في تلك الأثناء كان أبو خضير منضما لفرقة عسكرية تقاوم الاحتلال، ما أدى للقبض عليه أثناء الانتفاضة "لكن قضيت منها 7 شهور بالخارج"، يحكي الرجل الأربعيني أنه رغم الأذى الذي ناله "كنت حاسس إن ظهورنا محميّة عكس الآن"، فالقيادة الفلسطينية المتمثلة وقتها في الرئيس الراحل ياسر عرفات "كانت أشد قوة ولها كلمة واحدة.. عكس الرئيس الحالي ياللي يبدو كلامه استسلامي"، كما كان هناك "دعم من الدول العربية وهذا لا يحدث الآن" حسب قوله.
حين ألقى ترامب خطابه الأخير، معلنا نقل سفارة أمريكا إلى القدس، خرج أبو خضير في شوارع شعفاط-أحد أحياء القدس الشرقية- محاولا الوصول للمسجد الأقصى "طبعا الاحتلال منعنا"، سيطر الغضب على الموجودين وهو معهم، فيما ينوي الخروج اليوم في "جمعة الغضب" أيضا.
تتقاطع المشاعر في نفس أبو خضير، يحزن على حال مدينته "القدس صارت اليوم وحيدة.. انعزلت عن باقي فلسطين والعالم"، يعلو محياه الغضب "ترامب ما كان له إنه يعلن هيك شيء إلا لعلمه إن العرب ضعفاء وإن بعضهم حتى يبارك ما فعل"، فيما يضيف بأسى "أما نحن ففقدنا الثقة بقيادتنا".
ينزل أبو خضير إلى الشارع دون معرفة مآل الأمور، يفعل ما عليه، يقول بحسرة "هاي التحركات تبعنا هتضل كام أسبوع وبتخلص. أي إشي دون تنظيم وقيادة بيموت".
فيما تخرج المعلمة عبير في "جمعة الغضب"، لتقطع قرابة 3 كيلو مترات مرة أخرى حتى الحاجز الإسرائيلي، تستمد الهمة من حمية الشباب الفلسطيني، أما أبو ناموس فيصحب ابنه علي، يتملكه الخوف عليه، بينما يلتجم لسانه كلما سأله صغيره "وين العرب شو فيهم اليهود يضربونا وياخدوا منا أرضنا..ليش ما يطلعوا معنا يحاربوا ما عندهم طيران ومدافع؟".
فيديو قد يعجبك: