إعلان

بالصور-عائلة الطائرات الورقية..17 عاما من بيع البهجة

01:00 م الإثنين 03 يوليو 2017

كتبت-دعاء الفولي:

تصوير-روجيه أنيس:

كان ميعاد أسرة شوقي عبد التواب مع مدينة رأس البر يأتي في صيف كل عام؛ يستمتع الوالدان بجمال البحر، فيما يعكف الأبناء على اللعب بطائرات ورقية تسبح في السماء المتسعة، يتبارون لجعلها تُحلق أبعد، يركضون خلفها دون حساب للمسافات، غير أن المباراة لم تكن تستمر، إذ تلتف الطائرات حول نفسها لتهبط كخرقة بالية على الأرض... ضاق الابن الأكبر لعبد التواب بالأمر؛ فقرر صناعة واحدة بيديه بينما لا يزيد عمره عن 12 عاما، عملا بمبدأ "اللي يسأل مش هيغلب".

داخل ورشة مُتسعة في منطقة روض الفرج، يقبع عبد التواب مع ولده أحمد، الأم، الأخ الأصغر عبده، ومي التي تعمل مع الأسرة منذ 16 عاما. يبدو المكان كخلية نحل؛ تتناثر أعواد البوص هُنا وهُناك؛ أكياس بلاستيكية، خيوط بيضاء، ونماذج لطائرات كبيرة ومتوسطة اصطفت على الجدار الأيمن. ضوء الشمس يغمر المدخل، تلتمع أسفله الأشرطة الملتصقة على جسد الطائرات، قبل أن تزحف العتمة كلما اتجهت الأقدام لعمق المحل.

17 عاما بالتمام مرّت على أول طائرة صنعها أحمد "كان لونها أبيض في أسود". ما أن عادت الأسرة للقاهرة حتى ألح على أبيه كي يُجرب "بس هو رفض فروحت من وراه جبت بوصة واحدة وكيس وخيط"، شاهد الشباب الأكبر سنا في المنطقة يصنعونها "لقطت منهم شوية"، ابتهج الطفل وقتها بالمحاولات، إذ أسفرت عن باكورة إنتاجه، فطمع لعمل المزيد، وزاد سخط الأب "كنت خايف عشان دراسته وحاسس إنه لعب عيال".

‎في أحد الأيام صنع الصغير طائرتان "علقت واحدة جنب البيت والتانية لعبت بيها"، رآها أحد أصدقائه "فقاللي تبيعهالي؟"، ابتهج أحمد بالعرض، أعطاه إياها مقابل 20 قرشا، طار على جناح السرعة، أخبر والده بالصفقة، حينها تأكد الأب أن الابن لن يبرح ما يحب "بقى هو وولاد عمه يشتغلوا على طيارات.. أجيبلهم البوص والأدوات ويعملوا".

اتسعت رقعة الصناعة، اصطحب عبد التواب الصغار في جولة للمحافظات "كنا نروح نشتري البوص بكميات كبيرة ونتفق على أسعاره.. واتفقنا مع مصنع يعمل لنا الشنط البلاستيك بشكل معين"، وجد الوالد نفسه منساقا للمشروع "بقينا نشارك كلنا في الشغل وانا أدير الموضوع بشكل مادي".

تستغرق صناعة الطائرة وقتا يسيرا. "دقايق معدودة" حسبما تقول مي علي. جلست الفتاة ذات العشرين عاما على أرض الورشة، أمسكت عودا لا يتجاوز طوله النصف متر، قسمته نصفين، وضعت فوقه آخر بشكل معاكس، ربطت الخيوط حولهما بإحكام، فردت اللوح البلاستيكي سريعا، قبل أن تُثبّت جوانبه بشريط لاصق؛ فعلت ذلك فيما تتحدث مع أحمد الذي يناديها بـ"الأسطى مي".

شربت الفaتاة الصنعة من أسرة عبد التواب "متربية معاهم من أيام ما كانوا بيدوني 2 جنيه في اليوم"، شهدت على مواسم ازدحام ذلك المحل بالأطفال "كنا أول يوم في أجازة الصيف مبنعرفش نقعد.. العيال كانت تقف على دماغنا لحد ما نعملها الطيارة". باعت الأسرة منتجاتها جُملة وقطّاعي "كنا نطلّع في اليوم 200 دستة عشان إحنا الوحيدين اللي هنا في المنطقة"، ظلت حالة التجارة جيدة ثم تراجعت في السنوات الأخيرة، إما لارتفاع سعر الخامات أو تداخل المواسم.

"العيال مبتطيّرش طيارات في رمضان".. يحكي عبده-الابن الأصغر- أنهم لم يدركوا ذلك إلا عندما جاء الشهر المُعظم في صيف أحد السنوات. اضطر آل عبد التواب لصناعة الفوانيس من أقمشة الخيامية بالتوازي مع النشاط الأساسي، مكّنتهم تلك الفكرة من العمل لوقت أطول خلال السنة "لكن لما موسم الأجازات ورمضان بقوا سوا بقينا بنضّغط ولا عارفين نبيع طيارت كويس ولا لاحقين نظبط الفوانيس". مع تقلّص أعداد المهتمين بالطائرات "زوّدنا شغل الفوانيس"، والآن بات الأب يعلم أن التكنولوجيا ابتلعت الألعاب اليدوية "إيه اللي هيخليهم يهتموا بشوية ورق وبوص طالما في بلاي ستيشن؟"، فيما يقول عبده إن المحل مازال يستقبل بعض الأطفال رغم قلة عددهم.

الورشة التي يتناوب عليها آل عبد التواب، ظلت مصدرا لرزق آخرين. اتبعت الأسرة التجربة الصينية القائمة على مبدأ الإنتاج بدلا من الاستهلاك "بقينا نعلم الناس ونديهم خامات يشتغلوا ويطلعولنا شغل من البيت"، أكثر من عشرين شخص عملوا تحت لواء المكان، ومع تراجع الحال تم الاستغناء عن البعض، إذ تضاعفت أجرتهم نظرا للغلاء، ولم تستمر سوى أسرة واحدة مكونة من فردين.

مع الوقت تكالبت الأزمات على التجارة "مبقتش جايبة همّها" حد تعبير صاحب الورشة. كانت تكلفة الطائرة الواحدة بسيطة بينما مكسبها كبير "كنا بنبيع الطيارة بجنيه دلوقتي بقت بخمسة جنيه وبتكلفنا 4 جنيه.. والسنة دي دافع آلاف من جيبي ولسة مخدتش مقابل". تقول الأم إنهم ابتاعوا الخيوط بـ17 جنيها للكيلو في العام الماضي، ووصل سعرها الآن إلى 50 جنيها، لكن الأسرة حافظت على عهدها مع الإنتاج قدر المستطاع "بقينا ننتج في موسم الصيف كله 200 دستة مثلا"، يقول أحمد قبل أن يشير إلى مجموعة طائرات متراصّة في منزله.

انفضّ الأبناء كذلك عن الورشة شيئا فشيئا؛ يعمل أحمد خريج كلية التجارة في الدعاية والإعلان "وباجي أقف ساعات هنا"، علاء الأخ الأوسط انكبّ على كسب الرزق، بينما يداوم ثالثهم عبده على مساعدة أبيه بالتوازي مع دراسته بكلية التربية. 

مرارا فكّر الأب في تغيير المجال "بس لقيت إني هدفع كتير ومش هاخد حاجة خاصة إن المنطقة بتاعتنا هنا ماتت"، يتذكر الحال حينما كان سوق روض الفرج قائما "رزق كتير وناس بتيجي من كل حتة تشتري". رغم ذلك لا يجنح عبد التواب لإغلاق الورشة والاعتماد على أموال المعاش "بنزل أقعد فيها ونعمل كام حاجة وأهي أي مصاريف بتساعد"، يستدعي زوجات أبناءه أحيانا لمساعدته، فيما لا ينتج الطائرات بكميات ضخمة إلا حينما يطلبها أحدهم.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان