طريق النعوش الستة.. 8 مشاهد من حادث دير "المنيا" الإرهابي
كتب- مها صلاح الدين ومحمد زكريا:
تصوير- علاء أحمد:
حينما أعلن الفجر عن نفسه صباح اليوم، بعد أن خف الضجيج حول المستشفى الأميري العام بالمنيا، عرفت النعوش الستة طريقها نحو كنيسة الأمير تادرس، على مهل، وسط تكثيف من قوات الأمن، دخلت النعوش إلى القاعة الكبرى في الكنيسة، استقرت في خطوط طولية متوازية، يعلوها صلبان من الزهور البيضاء، ومدون عليها أسماء الراحلين.
كان مسلحون أطلقوا النار، صباح أمس، الجمعة، الثاني من نوفمبر الجاري، على حافلات تقل أقباطًا، في الطريق المؤدي إلى دير الأنبا صموئيل المُعترف أقصى شمال غرب محافظة المنيا، مما أسفر عن وفاة 7 أشخاص وإصابة العشرات، بحسب بيانات رسمية، وكان من بين الوفيات ٦ من عائلة واحدة، عائلة "شحاتة".
من داخل كنيسة الأمير إلى قبر عائلة شحاتة في المنيا الجديدة، شهدت النعوش 8 مشاهد تلخص رحلتها إلى المثوى الأخير..
المشهد الأول
بخلاف أهالي الضحايا الذين تراصوا في الصفوف الأولى بأرواح منهكة، خرجت ماري، بدموع تسيل على وجهها من قاعة الكنيسة، لم تكن تربطها أي علاقة بالضحايا من قريب أو من بعيد، ولم ترى أحدهم حتى ولو لمرة واحدة، جاءت فقط لتأخذ منهم البركة، هكذا قالت.
تتساءل متمتمة: "هو إللي شاف صورهم دول ينفع ميجيش"، تضرب كفا على كف، وتردف: "هما كدة فاكرين نفسهم هياخدوا ثواب لما قتلوهم، دول راحوا السما"، تكسو ملامحها علامات الإصرار والغضب: "لو كنا بنخاف مكناش نروح نزور الدير، بس هنروح ونزور، ياريتنا نطلع السما زيهم".
المشهد الثاني
في الثامنة صباحا، بدأت الجموع تتوافد على الكنيسة، لم تقوى الصبية "ليندا" على تحمل أصوات التراتيل، المختلطة مع عويل الحاضرين، ومشاهد تقبيل صناديق الجثامين، سقطت مغشيا عليها، ما اضطر أحد أقاربها باصطحابها إلى خارج الكنيسة.
تعيش "ليندا" حالة من الأسى منذ أن عرفت بسقوط ٦ من عائلتها دفعة واحدة، لذا أصرت على العودة ثانية لقاعة الصلاة؛ كي تشارك معهم الترنيمة الأخيرة.
المشهد الثالث
في محيط كنيسة الأمير، كانت قوات الأمن تتوزع بكثافة، رجال يرتدون البذلة الرسمية، وآخرين بملابس مدنية، لكن جميعهم كان شديد الحرص للتعرف على كل داخل إلى الكنيسة، بطاقة الرقم القومي للمسيحيين، وبطاقات تثبيت هوية للصحفيين ووسائل الإعلام، لكن مع بدأ القداس الجنائزي، اقتصر الدخول على أهالي الضحايا وتم منع الصحفيين ووسائل الإعلام من الدخول.
المشهد الرابع
في الظهيرة، اصطفت النساء وبينهن سيدة أربعينية انخرطت في البكاء، داخل ممر رملي، تراصت على جانبيه مقابر الضحايا، بالكاد تركت الجموع به متسع لمرور النعوش وحامليها، يمرون بانتظام إلى غرفة دفن عائلة شحاتة، وبينما يمر نعش شقيقتها "بوسي" كما كانت تناديها، تعالى نحيبها، وتدافعت وسط الرجال كي تلثم نعش شقيقتها بقبلة وداع أخيرة وهي تصرخ: "ده خد ابنه في حضنه، وده خد ابنه في حضنه، وانتي يا غالية هتبقي لوحدك"، فيما ردت عليها سيدة أخرى بتلقائية "هتبقى مع العذرا.. هو في أحسن من كده"، فهدأت الكلمات من روعها، وبدأت في الدعاء.
المشهد الخامس
مع كل نعش يدخل الممر، كان السيدات هن الحلقة الأضعف، كانت نهنهات بكائهن تتحول من نحيب إلى صراخ وعويل، لا يرضى القساوسة عنه، بينما ترد إحدى النساء بسيل من الزغاريد، لخمد صراخهن، وتحويله إلى هتافات ودعاء، قبل أن يهيمن الحزن ثانية؛ حين يمر أحد النعوش الستة من جديد.
المشهد السادس
كان لكلًا دوره، حتى جاء على ماريا كمال، التي حملت كالآخرين في صندوق خشبي، أبيض اللون، ملصق عليه ورقة بالاسم وتاريخ الميلاد والوفاة، لكن مرورها من بين المعزين إلى حجرة الدفن، لم يكن كغيرها، وهي بنت الـ15 عامًا، تعالى النحيب، الصراخ، سيدة خمسينية، أغرورقت عينيها الحمراء بالدموع، شخصت بصرها إلى النعش، فيما تردد، وكأنها تحكي سيرتها "طفلة في ستة إبتدائي، لا ليها ولا عليها، غدروا بيها هي وأبوها، وأمها راقدة مصابة، أسرة في منتهى الآدب والأخلاق، ليه الظلم يارب".
المشهد السابع
في المدة بين استقرار نعش وآخر بمثواه الأخير، كان الحضور بين طرقة ضيقة على جانبيها مدافن لموتى، يرددون الهتافات، أغلبها أنصب على الدعوات بالرحمة، بالمساعدة في المحنة، لكن بعض المعزين كان يهتف: "يا نجيب حقهم يا نموت زيهم".
المشهد الثامن
أبت سيدة متشحة بالسواد المغادرة بعد انتهاء المراسم، رفضت الابتعاد عن الصناديق البيضاء الفارغة، حاول بعض القساوسة تهدأتها، لكنها لم تنصاع لطلباتهم، صارت ترمقهم بعيون دامعة، تردد "خلاص.. خلاص"، تلتقط أنفاسها وتنتحب: "الحكاية خلصت خلاص"، وتتعالى نبرة صوتها: "الكل سابهم ومشي".
فيديو قد يعجبك: