موظفون بدرجة "سواقين توك توك".. حكايات من "الشيفت كاريير" الشعبي
01:02 م
الإثنين 24 ديسمبر 2018
كتب- محمد زكريا:
تصوير- روجيه أنيس
منذ البداية، لم يحمل محمد حسن همًا كبيرًا، تمسك بوعود زيادة الراتب، ورغبة حرة في تحسن عمله بالمحاماة، لكن مرت الشهور دون جديد، فيما ضغطت عليه المعيشة وكثر سؤال العروس، هنا بدا للشاب أن مسار المهنة مغلق، لذا قرر تغييره. طوى صفحة كلية الحقوق للنهاية، وبات يلف شوارع مدينة القليوبية بـ"توك توك".
في العام 2013، أتمّ حسن خطبته، قبل عام من تخرجه في كلية الحقوق بجامعة عين شمس، ليتدرب مطلع العام 2015 داخل مكتب للمحاماة، مقابل 300 جنيه شهريًا، يقول إن هذا لم يكن يكفي مصروفاته الشخصية، فمن أين يُدبر مصاريف الزواج؟ سأل نفسه، قبل أن يتخذ ابن منطقة الخصوص قرارًا مصيريًا. غادر حسن عمله. طلّق مهنة المحاماة بلا رجعة. فيما استمر في البحث عن شغل، يدبّر له مصاريف الزواج، وينتشله من شبح البطالة، التي سجلت خلال الربع الثالث (يوليو- سبتمبر) من العام 2018، نحو 2.920 مليون متعطل، هم نسبة 10% من إجمالي قوة العمل، المُقدرة بـ29.215 مليون فرد، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، لذا انتقل في شهور من عمل إلى آخر، عمِل طباخًا في مطعم ومحصل أموال في آخر، ورغم عدم كفاية راتبه لسد احتياجاته المُتشعبة، نجح في الزواج بمساعدة أسرته، وبقي عليه الاستقرار في عمل يؤمّن له حياته. بعد طول تفكير، عرض حسن فكرة شراء "توك توك" على أسرته وأصدقائه، كانت مفاجأة بالنسبة لهم، بينما لمح المفارقة التي يخشاها في أعينهم، قرار "الشيفت كاريير" - Career Shift بمعنى تغيير المسار الوظيفي- من الحقوق لقيادة "التوك توك"، لكن إقناعه لهم بالمكسب المضمون، سهّل من هضمهم للفكرة، ليوجه أمواله في "جمعية بـ10 آلاف جنيه" إضافة إلى "15 ألف جنيه ميراث مراتي" في شراء "توك توك مُستعمل". يعمل الشاب عليه الآن، بات يتحصل في المتوسط 150 جنيهًا يوميًا "وحسب التساهيل.. دي أرزاق"، يقول إن أموره المادية تحسنت إلى حدٍ ما، لكنه غير راضٍ عن وضعه الاجتماعي، فتراوده بين حين وآخر ذكريات أربع سنوات درس فيها الحقوق، مشاهد يقطعها سريعًا ويوشْوش نفسه: "ما باليد حيلة". حسن ليس الوحيد؛ شباب كثيرون غيروا من أعمالهم السابقة، واتخذوا من الـ"توك توك" وسيلة لكسب الرزق. تخطى سائقو التوك توك في مصر عدد "6 ملايين سائق"، يعملون على "ما لا يقل عن 3 ملايين توك توك"، بحسب تقديرات نجلاء سامي، نقيب سائقي الدراجات البخارية والتوك توك، والتي تُطالب بإصدار قوانين واضحة تُرخص عمل المركبة وتعترف بحقوق سائقيها. وبالتزامن مع النقاشات التي تدور بين الحين والآخر عن توفيق أوضاع "التوك توك"، وضعت إدارات الأحياء بالمحافظات آلية تُنظم عمله في الشوارع، وذلك عن طريق تقدم السائق إلى الحي التابع لسكنه، ويطلع موظف بالحي على ما يثبت امتلاك صاحب المركبة لها، قبل أن يُثبت بياناتها بالسجلات ومنها "اسم السائق ورقم الموتور ورقم الشاسيه وموديل السنة.. "، يتبع ذلك ملصق بظهر العربة مدون عليه اسم الحي ورقم يُميز كل مركبة، وتُسلم للسائق ما يُشبه بطاقة هوية أو تعريف يوازي الرخصة، دون أن يتكلف السائق أي مليم، والهدف من ذلك السيطرة على عمل "التوك توك"، وسهولة رصده وتتبعه في حالة المخالفات والجرائم التي تتم من خلاله أو بتورط سائقيه- حسبما يقول أحد موظفي حي الأميرية بالقاهرة، والذي فضل عدم ذكر اسمه. لكن نهاية نوفمبر الماضي، وجه المهندس مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، خلال اجتماعه بالمحافظين، بوقف إصدار تراخيص جديدة لـ"التوك توك" لفترة مؤقتة "حتى يتسنى الحد من الظواهر السلبية التي نتجت عن الانتشار غير المنضبط له"، والتي أوضح مدبولي أن العديد من الدراسات الحديثة بدأت تحذر من خطورة استسهال الشباب للعمل على الـ"التوك توك" و"انصرافهم عن فرص العمل الجادة التي تحقق التنمية وتبنى الوطن"- حسب تقارير صحفية نقلت عن اجتماع مدبولي بالمحافظين. في شوارع منطقة شرق القاهرة، كانت المركبة ذات الثلاث عجلات تسير على مهل، وعلى ظهرها ورقة مكتوب عليها "حي المطرية" ورقم مكون من ثلاثة أرقام، وبداخلها، محمد عبد الرحمن، رجل على مشارف الخمسين من العمر، يرتدي بدلة تميزه عن باقي سائقي الحي، بينما يحكي قصة طويلة، انتهت بتحول عمله إلى قيادة الـ"توك توك". ظل عبد الرحمن، طيلة 11 عامًا، موظفًا بالقطاع الخاص، تُصرف له بدلة كل 6 أشهر، كقائد لسيارة رئيس مجلس إدارة بنوك مصر، قبل أن يتم فصله بالعام 2008، دون أن تُوضح له أي أسباب، وهذا ما أغضبه بشدة، ورغم أنه اتجه بعد ذلك إلى العمل الحر، وقاد سيارات خاصة لناس آخرين، إلا أنه لم يتنازل عن حقه، كان قراره حاسمًا بأن يخوض المعترك حتى النهاية. تقدم بشكوى إلى مكتب العمل، الذي يتبع وزارة القوى العاملة، ولجأ إلى منصة القضاء، الذي حكم له في العام 2013 بتعويض 23 ألف جنيه، في وقت كان الرجل بأمس الحاجة لمبلغ مالي، يحمله على مشروع يتكسب منه رزق زوجته وأولاده، خاصة بعد تقدمه بالعمر، وما ترتب عليه من انخفاض فرصه في العمل، لذا كان الحكم نقطة تحول في حياة الرجل، الذي قرر التخلي عن مؤانسة "أصحاب الفخامة"، ولو أنه تمنى أن يشتري سيارة ملاكي، لكن ضيق اليد دفعه لشراء "توك توك"، والعمل عليه ساعات الليل، يقول إنه بات قادرًا على تلبية حاجات ولديه، ويحلو لأهل الحي الشعبي مناداته بـ"أشيك سواق في مصر". الآن، يرتاح عبد الرحمن للعمل سائق "توك توك"، ولا يرى في عمله الجديد ما يعيبه، أو يسبب له إحراجًا، يؤرقه فقط إحساسه بالعمل ضمن قطاع مهمّش، غير مقنن، ولأجل الأخيرة أوضح محمد بدوي دسوقي، عضو لجنة النقل والمواصلات بمجلس النواب، في بيان له، مطلع الشهر الجاري، أن "اللجنة تناقش في الوقت الحالي البنود الخاصة بترخيص التوك توك"، ضمن عمل اللجنة "على قدم وساق للانتهاء من مناقشة قانون المرور الجديد". ترى نجلاء سامي، نقيب سائقي "التوك توك"، في حديث لمصراوي أن ترخيص عمل المركبة سوف يدرّ دخلًا على الدولة من خلال الضرائب المفروضة عليه. كما يُسهل من محاسبة المخطئ من سائقيه. لتقترح أن يتضمن القانون إصدار التراخيص لمن هم أكبر من 18 عامًا، حتى يُمنع الأطفال من قيادته، والتي تُقدرهم بـ20% من العاملين بهذا القطاع. أيضًا تقترح تحديد الطرق التي يسير عليها، حتى "نتجنب وقوع الحوادث". بينما تؤكد على أهمية القوانين التي تحفظ حقوق العاملين بـ"قطاع التوك توك"، من تأمينات اجتماعية وصحية. وإلى أن تتحول المقترحات والمشروعات إلى واقع بقوة القانون، يُصنف اقتصاد "التوك توك" حتى اللحظة على أنه غير رسمي. والاقتصاد غير الرسمي مُصطلح يطلق على ملايين العاملين في قطاعات الصناعة والتجارة والخدمات من غير الملتزمين بالنظم والقوانين ولا يدفعون الضرائب عن أعمالهم ولا يخضعون للأجهزة الرقابية المختلفة. وقد بلغ حجم الاقتصاد غير الرسمي في مصر 1.8 تريليون جنيه مصري وفقًا لتصريحات رئيس الوزراء السابق شريف إسماعيل في نوفمبر 2017، بينما يرفع نائب محافظ البنك المركزي جمال نجم هذه التقديرات إلى 2 تريليون جنيه، ولكن وزير المالية السابق عمرو الجارحي يرى أنه لا يمكن تقدير الاقتصاد غير الرسمي في ظل عدم القدرة على حصر الأموال السائلة بالأسواق. وبحسب بيانات رسمية في عام 2012- 2013، يتركز معظم العاملين الفقراء في القطاع غير الرسمي، يليه القطاع الخاص، ويشكلان معًا أكثر من 85% من العاملين الفقراء. رغم ذلك ترى شيرين الشواربي، أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن الاقتصاد غير الرسمي به العديد من المزايا على الرغم من ارتباطه بالدول النامية، وذلك بسبب قدرته على استيعاب العمالة التي تفتقد فرصة العمل في القطاع الرسمي، لأنه بطبيعة الحال اقتصاد يحتاج إلى عمالة ذات مهارة منخفضة، لذا يُعرف بالاقتصاد غير الكفء وغير مضمون العواقب، ولهذا تعتقد أن الأصلح لنمو الاقتصاد القومي هو تطوير القطاع غير الرسمي بشكل تدريجي وليس القضاء عليه، ليصبح في النهاية قطاعًا رسميًا، نستطيع أن نراقبه، ونقيس مدى إنتاجيته ونطوره. تتفق الشواربي مع مطالبات تقنين عمل "التوك توك"، وتقترح أن تُطبق على سائقيه الضريبة القطعية، بمعنى اقتطاع مبلغ ثابت من السائق عند إعادة الترخيص في كل مرة، دون النظر إلى ما حققه من مكاسب أو أرباح. ولا ترى أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة أن الهدف الأهم من ترخيصه هو الحصول على الضرائب، لكن الأهم هو تحسين خدماته وضمان أعلى معدلات الأمان لمستقليه، فلم يعد في رأيها وسيلة النقل داخل الأزقة وعلى أطراف المدينة، بل بات إحدى وسائل النقل الأساسية في قلب المدينة، لذا تنصح بأن تبذل الدولة مجهودًا أكبر لاستيعابه والعمل تحت مظلتها. لم ينضم محمد عبد الحكيم يومًا إلى القطاع الرسمي. منذ كان طفلًا، يعمل صاحب الـ23 عامًا "مساعد صنايعي". اشتغل في النجارة، الكهرباء، وفي تركيب السيراميك. قبل أن ينتهي به الحال، قبل 5 سنوات، سباكًا، لمدة 12 ساعة يوميًا، مقابل 60 جنيهًا. لكن استلامه عرضاً من زميل، للعمل على "توك توك"، بمقابل أكبر من الذي توفره السباكة، دفعه للموافقة على اقتراح الزميل، هجر مهنته إلى الأبد، وراح يعمل سائقًا لـ"توك توك"، قبل أن ينجح في شراء واحد بـ19 ألف جنيه، في العام 2012. سار عمل الشاب في تقدم، حتى إنه صار يمتلك "3 تكاتك" بحلول العام 2016، فبات "أسطى" كما يقول ضاحكًا، يؤجر عرباته لشباب بـ"الوردية"، ويدّخر ما لا يقل عن 300 جنيه يوميًا، بعد صرفه ما يفوق نصفها على طعام وشراب وسجائر، يفخر الشاب بما حققه وهو يُشير إلى عمره. ورغم اضطراره إلى بيع "مكنتين" لعلاج والدته المريضة، فإنه مستمر الآن في العمل على الثالثة، من السابعة صباحًا إلى الثالثة عصرًا، واستكمال العمل لحوالي 7 ساعات مساءً، ليتحصل على مبلغ يتراوح بين 180: 250 جنيهًا، كما يتضاعف أجره في حال استخدم عربته لصالح إحدى حفلات الزفاف الشعبية، وهو الذي صممها لتشبه "عربة كابورليه" وطلاها باللون البرتقالي. بأحد شوارع ضاحية حلوان، جنوب القاهرة، كان باسم خلف، يتحصل على خمسة جنيهات من أحد زبائنه، نظير خدمة التوصيل. ليتحدث بعدها عن قرار "الشيفت كاريير" من "قهوجي" إلى "سواق توك توك". لسنوات، عمل خلف في خدمة زبائن مقهى يقترب من الحي الذي يسكنه، ورغم تحصله على 180 جنيهًا من العمل 12 ساعة يوميًا، وهو مبلغ يصفه بالجيد، إلا أنه ترك العمل بالمقهى غير آسف عليه. يقول إنه لم يعد يقبل العمل تحت إمرة شخص آخر، لذا عرض أمر "التوك توك" على والده، الذي تحمس للفكرة، وقرر أن يشتريه له. أصبح صاحب الـ24 عامًا حرّ نفسه- بوصفه هو. خلال إحدى جلسات مؤتمر الشباب، في مايو الماضي، خاطب الرئيس عبد الفتاح السيسي العاملين بالقطاع غير الرسمي، قائلًا: "خشوا في الاقتصاد الرسمي وأنا بأقول لكم معاكم 5 سنوات إعفاء ومتدفعوش حاجة". وقبل حديث السيسي بأيام، كشف المهندس مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، في كلمة ألقتها نيابة عنه الدكتورة هالة السعيد، وزيرة التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري، في ختام مؤتمر "يورومني"، عن "اعتزام الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إجراء مسح اقتصادي لجميع المشروعات والوحدات الاقتصادية في القاهرة والمحافظات لحصر النشاط الاقتصادي، وتحديد حجم القطاع غير الرسمي، ليكون خطوة نحو ضمه تحت مظلة الاقتصاد الرسمي". كان محمد دياب واحدًا من أبناء القطاع الرسمي، قبل أن يضطر إلى تغيير مسار حياته الوظيفي، اشترى "توك توك"، وراح يقوده في شوارع المطرية، وهو في عمر السبعين. لأكثر من 35 عامًا، عمل دياب موظفًا إداريًا بإحدى شركات الحكومة، بينما رُبط له معاش وصل الآن إلى 2000 جنيه، مبلغ كان يكفيه بالكاد لسد حاجته وزوجته وبناته الثلاث، قبل العام 2016، والتي جاءت لتعصف بحال الأسرة، كما يقول عائلها. شهد إبريل من العام 2016، تنفيذ أولى خطوات برنامج سمّته الحكومة "الإصلاح الاقتصادي"، والذي أشارت مسودته إلى أن الهدف منه هو "معالجة الاختلالات المالية والنقدية والمشاكل الهيكلية التي عانت منها ولا تزال منظومة الاقتصاد المصري". لكن تضمن البرنامج إجراءات وصفها محللون بـ"القاسية"، كان أبرزها تحرير سعر صرف الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية (التعويم)، في نوفمبر 2016، والذي أسفر عن فقدان الجنيه لـ48% من قيمته، وكذلك زيادات كبيرة في أسعار الوقود والكهرباء والمياه والخدمات، بحسب إحصاءات رسمية. كان لغلاء المعيشة، الفضل الأول، في اتخاذ دياب قراره النهائي. مطلع العام 2017، بدأت الفكرة تدور بذهن الرجل العجوز، ليعرضها على أبنائه، ويلقى رفضهم منذ البداية، لكن مصارحة الأب لأولاده بظروفه، وضعف قدرته على تلبية حاجاتهم، دفعهم لقبول رغبته، وافقوا على مضض في النهاية، لينتهي الأمر بالموظف الإداري جالسًا على مقعد "توك توك"، يلف به على زبائنه. |
فيديو قد يعجبك: