"الأهرام وتوني فارس".. 90 عامًا ولا يزال "المسيو" في بلاط صاحبة الجلالة
تصوير- حسام دياب:
حوار- أحمد الشمسي:
كان الأسبوع الأخير من يوليو 1952 حرجًا، أجبر تنظيم الضباط الأحرار الملك فاروق على التنحي والتنازل عن العرش ومغادرة مصر. فى تمام الساعة السادسة وعشرين دقيقة من مساء ليلة 26 يوليو، الجنود اصطفوا على الجانبين، وعدد من الضباط الأحرار بقيادة محمد نجيب تواجدوا لوداع الملك فاروق، كانت المؤامرات تُحاك داخل العقول، لا أحد يطمئن لأحد، فيما كان هناك شخصان آخران يضعان خطة من أجل الوصول إلى الملك، الأول كان مُلقبًا بـ"المسيو"، والثاني يُدعى "خميس عبداللطيف"، استأجرا لانشًا صغيرًا، وانتظرا حتى تحرك يخت "المحروسة"، فأشار أحدهما لصاحب اللانش "اتحرك يا ريس"، كان اليخت يسير ووراءه اللانش الصغير، تحرك الـ "مسيو" بهدوء، عبث بحقيبته الجلدية، وما إن أصبح مستعدًا للقيام بعمله، حتى بادرته رصاصات تحذيرية من حرس الملك فاروق، طالبوهما بالعودة، عاد الاثنان دون الحصول على صورة فوتوغرافية لجريدتهما "المصري" و"الأخبار".
يقولون في علم الأبراج إن مواليد شهر ديسمبر، وتحديدًا يوم 27، يمتلكون الإصرار وتمتلكهم روح الاستقلالية، يتشوقون شغفًا من أجل الحرية، يهِمون لمساعدة الآخرين، ما يؤدي بهم إلى العيش تحت ضغط عصبي طوال حياتهم.. لكن "مسيو توني فارس" لا يعبأ كثيرًا بما تقوله الأبراج.
في إحدى ليالي ديسمبر الشتوية من عام 1929، وداخل أحد الأحياء المحتلة منتصف إسكندرية (باكوس)؛ كان ينتظر الموظف في إدارة النقل "عبده"، صُرخات طفله، أول فرحته، جاء إلى الدنيا، بشرته "الداية" بأنه "ذكر"، فأطلق عليه "أنطوان". وُلد الذي اشتهر فيما بعد بـ"توني فارس" يوم 27 ديسمبر عام 1929، ولم يكن يعتقد أن ذلك التاريخ سيكون فارقًا فى حياته كلها، فهو نفس اليوم الذي وُلدت فيه الأهرام أيضا قبل مولد أنطوان بـ54 عامًا، ليحتفل "المسيو توني" بعيد ميلاده التسعين كأقدم صحفي في مصر، موجود داخل مؤسسة تحتفل بعيد ميلادها الـ144.
يقول الشاعر صلاح عبدالصبور في "أحلام الفارس القديم": "لو أننا كنا كغصني شجرة، الشمس أرضعت عروقنا معًا، والفجر روانا ندىً معًا، ثم اصطبغنا خُضرة مزدهرة، حين استطلنا، فاعتنقنا أذرعا"، وربما هذا الجزء من القصيدة هو المُعبر بشكل كبير عن العلاقة الوطيدة بين "مسيو توني" والأهرام.
السكون يُخيم على المنطقة، التي تنتظر دقائق قبل أن يقتحمها كافة أنواع التلوث الضوضائي، أصوات الباعة الجائلين، صرير ماكينات الطباعة، أصوات المارة وكلاكسات السيارات. كانت "العتبة" خضراء، لكن لتوغل العشوائيات إليها صارت "عتبة" فقط دون "خضرة". داخل أحد المنازل الكائن بشارع عبدالعزيز؛ يستعد الـ"مسيو" للذهاب إلى عمله، مع دقات السادسة والنصف تمامًا، يقود سيارته تجاه شارع الجلاء، يقف أمام مبنى عريق وفخم، يضغط على كلاكسات السيارة، يظهر "السايس"، فيفتح الجراج له، يختفي الـ"مسيو" بداخله، يركن سيارته في المكان المعتاد يومياً، يترجل منها، يُعدل بدلته، ثم يمشي واثقَا مهندم الثياب، يستقل الأسانسير، ثم يتجه صوب مكتبه، يجلس، يستعد لبدء اليوم، هو أول من يدخل الأهرام، قبل أي شخص، كانوا يضبطون ساعات أياديهم عليه، مسيو توني فارس وصل، إذا الساعة الآن السابعة صباحًا.
على مدار 60 عامًا، يعرف مسيو توني جيدًا كل رُكن في مبنى الأهرام، يحفظ من فيها، يوزع ابتساماته على الجميع، لم يختلف عليه أحد، يتذكر أنواع الكاميرات التي لامست يداه للمرة الأولى "كانت أنواع رول ريكورد ورول فليكس"، لم يكن يتخيل أحد أن يعمل الرجل في المؤسسة لمدة 10 سنوات أخرى بعد خروجه على المعاش، أتم عامه التسعين الآن، وما زال مواظبًا على الذهاب إلى ذلك المبنى الواقع بشارع الجلاء، لا يمر مرور الكرام والضيوف "لازم أشوف كل الصور لحد دلوقتي، أنا مقدرش أعيش غير لما أتفرج على الصور، وأشوف تفاصيلها وكادراتها، أقعد بيني وبين نفسي، أسأل نفسي، يا ترى إيه العيب اللى فى الصورة دي؟...". لم يشعر بالملل من الأهرام "الناس هنا كلهم كويسين وأنا بحبهم"، ربما اختلف يومه المعتاد منذ 60 عامًا وحتى الآن "دلوقتي أنا كسلان شوية باصحى متأخر شوية.. وأقعد أتابع الأخبار.. لأني في النهاية صحفي"، لكنه يلتزم التزامًا مُقدسًا بزيارة الأهرام الأحد من كل أسبوع.
لم يكن هناك مصري يمتلك جريدة، حيث كانت مُعظم الصحف والمجلات تصدر عن طريق الصحفيين الشوام (في لبنان وسوريا)، حتى ظهر محمود أبوالفتح، خريج كلية الحقوق جامعة فؤاد الأول، والذي كان متحمسا للثورة السعدية، وقرر هو واثنان من زملائه تأسيس جريدة مصرية خالصة وهي "المصري"، ظلت الجريدة تصدر، وكانت سندًا لثورة يوليو 1952، وعمل مسيو توني في مكتب الجريدة فى الإسكندرية.
انسدلت ستائر الشمس، لتُعلن عن إقبال الليل وإدبار النهار، ومع هذا الوقت يلزم معظم أهالي الإسكندرية منازلهم، أفراد من البوليس يجوبون الشوارع، كان تعميمًا صادرًا للصحفيين بشكل خاص أن خروجهم ليلا يستلزم إخطارًا من رجال المباحث، حفاظا على حياتهم، بعد وقائع القتل التي تكررت في الفترة من 1951 ولمدة عامين، والتي كان بطلها سعد إسكندر عبدالمسيح (سفاح كرموز)، يقول تونى إنه خلال هذه الأيام عندما كانوا يقطعون تذكرة لحفل السينما الليلي، كان لابد لهم من استئذان رجال المباحث، بعد القبض على السفاح، تمكن توني من تصويره لصالح جريدة "المصري"، يتذكر قصصه وأساطيره التي كان يرددها العامة "كانوا بيقولوا إنه مرة راح لشقة رئيس مباحث نقطة كرموز على أساس إنه محصل نور.. وراح قطع له وصل نور وحاسبه ومشي من غير ما يعرفه".
في باكوس، أُعجب "توني" بفتاة، تحدث مع شقيقها الذي كان صديق منطقته، وافقت الأسرة، وتم الزواج "في يناير 1954 اتعرفت على مراتي من باكوس.. مفيش صلة قرابة بينا، بس إخواتها كانوا معايا فى المدرسة، وأنا أعجبت بها، واتجوزتها".
في نهاية عام 1953، وبعد انتهاء قضية سفاح كرموز وإعدامه، اتجه التفكير نحو توثيق جريمة هي الأبرز في تاريخ الإسكندرية، رغم رحيل أبطالها، وهي "ريا وسكينة"، ولذلك أنتجت أفلام الهلال فيلمًا عن الجريمة، وتمت الاستعانة بمسيو توني ليكون مصورًا لنجوم الفيلم (أنور وجدي، شكري سرحان، زوزو حمدي الحكيم، نجمة إبراهيم وفريد شوقي...).
في 1954 ودون سابق إنذار، حدث خلاف بين قائدي ثورة يوليو وجريدة المصري، حين اتهم صلاح سالم، محمود أبوالفتح أنه جنى ثروته من البيع في السوق السوداء، ثم ثبت خلال المحاكمة أن أبوالفتح لم يشترِ ولم يبع، فأغلقت الجريدة في نفس العام. أصبح توني فارس مع إغلاق الجريدة بلا عمل، حتى سنحت أمامه الفرصة ليكون المصور الصحفي لمكتب جريدة الأهرام في الإسكندرية. كان ذلك في عام 1955.
قبل بداية الستينيات؛ كان التصوير الصحفي –أيضًا- في مصر قاصرًا على الأجانب فقط (الأرمن أو اليونانيين)، لم يكن هناك مصور صحفي مصري الجنسية، كان المسيطر والأشهر بينهم هو المصور الأرمني "أرشاك مصرف"، كان محترفًا، تخصص فى التقاط الصور الصعبة، صور حريق القاهرة وكان يثق فيه الرئيس جمال عبدالناصر، حيث استطاع التقاط أجمل اللقطات له، ومنها صورته وهو يلعب الشطرنج، كما يُعد "مصرف" أول رئيس لقسم التصوير فى جريدة الأهرام.
سافر "مصرف" في إجازة إلى فرنسا دون عودة، حيث عرضت عليه شركة سى. بى. إس الانتقال للعمل بها مقابل أجر كبير فوافق، وربما فتح ذلك الباب بمحض الصدفة للمصريين كي يُثبتوا أنفسهم في مجال التصوير، حيث يُعد محمد يوسف وحسن دياب وعبده خليل وتوني فارس أول من مصَّـروا التصوير الصحفي في مصر، وكانوا يعملون في ظروف قاسية جدًا، يقول "توني": "مكنش فيه التطور التكنولوجي الموجود النهاردة، كان التصوير زمان بيعتمد على شريحة زجاج يوضع عليها كيماويات تتأثر بالضوء، الشريحة دي تروح بيها أهم المناسبات وأنت وحظك، يا إما تنجح أو تفشل".
ترك "توني" مكتب الإسكندرية وجاء إلى مكتب الأهرام الرئيسي في القاهرة، عمل مع محمد يوسف أول مصري يرأس قسم التصوير بالأهرام بعد "مصرف"، كان يعمل فى البداية في قسم التحميض، ثم عمل في التصوير بعد فترة قليلة، وطأت أقدام مسيو توني الأهرام في فبراير من عام 1962، ومن وقتها وحتى يومنا هذا وهو يذهب إلى الأهرام.
لا يمتلك مسيو توني صورًا لأرشيفه "الصور مِلك المؤسسة اللى باشتغل فيها.. ليه أشيلها فى البيت"، لديه قواعد صارمة بشأن مهنته، لا يتحدث عن تفاصيل عمله، ولا يستغله أحد حتى أولاده، يتذكر وقتما جاء إليه أحد أبنائه السبعة، يقول له "بابا عاوزك تصورني عشان المدرسة عندي عاوزين صورة ليا"، ليفِزّ الأب بغضب مكتوم "أنا مش مصوراتي.. أنا مصور صحفي.. أومال الاستديوهات دي فتحوها ليه.. عشان تتصورا فيها للمدارس".. يحكي أصغر أبنائه "ميشيل" أن والده لم يصورهم إلا نادرًا "كان بيحب شغله لدرجة إنه مينفعش يخلط الحاجات على بعض.. كان منظمًا ودقيقاً جدًا.. وحقيقيًا في تعامله مع المهنة".
على مكتبه، هو رُمانة الميزان، هو لاعب خط الوسط، صاحب التكليف، من عليه مسؤولية التطوير والتنظيم، يضع خطوط السير للمصورين، لا يوجد أحد لم يتعامل مع مسيو توني فارس، ربما يجد البعض فيه عيبًا، كون حقه مهضومَا داخل المؤسسة، يقول أحدهم "برغم عمره اللى داخل على الـ90 أو شغله فى الأهرام منذ ما يقرب من 60 عامًا إلا أنه لم يرأس قسم التصوير"، لا يجد "توني" لهذا مسمى، لكنه يؤمن بأنه لا يجب الدخول في صراعات لأنها على حد قوله "بتقصر العمر.. والعمر مفيهوش وقت للصراعات ولا المؤامرات"، لا يجد شغفًا فى رئاسة القسم، ورغم كونه أقدم رجل فى الأهرام، لم يطمع مرة فى منصب، كان يعمل نائبًا لرؤساء الأقسام جميعهم، كان هو الماكينة، التي تُشغل الأهرام، و"تُفنط" الصور، وتُشعل الهممّ "أنا الحمد لله معنديش مشكلة مع حد.. وبحب كل الناس".
عمل توني مصورًا حربياً، شارك في حروب عدة، حرب تحرير الكويت، حرب 1973، نكسة 1967 "ربنا يكفينا شر الحروب، كنا نروح نصور الحاجة اللى إضربت بعدها بيوم فى مكانها، ونرجع مع الضباط بردوا، منقدرش نمشي لوحدنا.. ممنوع". عاصر جميع الرؤساء، ولمدة 4 سنوات من عام 1990 وحتى 1994، عمل في رئاسة الجمهورية مصورًا للرئيس الأسبق حسني مبارك، تمرس في كل الألوان الصحفية "مفيش نادي فى مصر مروحتهوش.. لفيت مصر كلها الحمد لله"، سافر عدة دول منها الصومال أعقاب الحرب الأهلية هناك، ووثق بكاميرته استعادة طابا بعد النصر.
طوال مسيرته المهنية التي تقترب من الستين عامًا، لا يرى مسيو توني للصحافة وضعًا يليق بها الآن "الصحافة دى كانت زمان"، يرى أن المكاتب هي من تصنع صحفيي الأجيال الحالية وهي ذاتها التي قتلت الإبداع "كل واحد قاعد على مكتب وبيقولك صحفي.. طب إزاي"، مؤكدًا أنها ملاحظة لا تنطبق على عموم الصحفيين، قبل أن ينتقد المواعيد "زمان كانت المواعيد حادة جدا.. بالدقيقة.. لأ بالثانية.. دلوقتى التأخير بالساعة والساعتين"، يتذكر وقتما كان يرتاد الأهرام، كان يدخل المؤسسة السابعة بالتمام، ينتقد الكسل فيُشير إلى صورة له خلال حرب تحرير الكويت التي شارك في تصويرها كمصور حربي "كان عندي أكتر من 60 سنة وشغال.. دلوقتي للأسف شباب مكملوش الأربعين ومكسلين يشتغلوا".
ربما تخون جدو توني الذاكرة من فينة إلى أخرى عند الحديث عن الصحافة والسياسة والتصوير وأنواع الكاميرات وما إلى ذلك، لكن ما إن تسأله "بتشجع مين؟"، حتى تتنبه حواسه وتنتفض وتتسع حدقتا عيناه قبل أن يُجيب "الزمالك طبعا.. هو فيه حد يشجع غير الزمالك"، تقريبا لم يفوت مباراة للأبيض، يعشق النادي عندما يفوز، ولا يعبأ بهزائمه أو كبواته، يتذكر جيدًا التفاصيل، لكن مسيو توني هو الزمالكاوي الوحيد داخل المنزل وسط 7 من أولاده جميعهم أهلاوية "مش عارف دول طلعوا أهلاوية لمين؟"، قبل أن يستطرد بسخرية "عيالي دول شيوعيين".
جميع رؤساء تحرير الأهرام منذ عام 1962 مروا على توني فارس "اشتغلت مع محمد حسنين هيكل، وإبراهيم نافع، ليا ذكريات حلوة كتير معاهم، أنا قديم جدًا فى الأهرام"، قبل أن يبتسم بلُطف "رئيس مجلس الإدارة الموجود حالياً.. أنا أقدم منه في الأهرام.. بصراحة أنا أقدم واحد في المؤسسة دلوقتي". لم يكن مبنى الأهرام طوال الوقت في شارع الجلاء، حيث كان قديمًا في منطقة مظلوم بباب اللوق، قبل أن يتم نقل جميع المحررين والصحفيين إلى المبنى الجديد بشارع الجلاء، توني فارس عاصر بناء المبنى الحالي للأهرام منذ أن كان أرض فضاء "جيت هنا وطوبة وطوبة كده المبنى ده كبر معايا".
كشريط سينمائي يمر من أمام عينيه، يحكي عن أيام الشقاوة والصُحبة الحلوة، مع قامات عظيمة في التصوير منهم محمد يوسف، أنطون ألبير، إميل كرم، حسن دياب. تدمع عيناه قبل أن تنطق شفتاه "الله يرحمهم"، يحكي عن محمد يوسف، أول مصري يرأس قسم التصوير فى الأهرام بعد "مصرف": "كان عنده مشكلة فى إيده ورغم كده كان عنده إصرار غريب إنه يطلع صورة حلوة وكادر حلو".
ليس هناك أى مفارقة لتاريخ ميلاد مسيو توني سوى ولادة الأهرام في نفس اليوم، لكن ما إن تطرح عليه السؤال المعتاد حول كيفية احتفاله واستقباله لعامه التسعين، يرد بكلمات متثاقلة "مش باحتفل بعيد ميلادي.. لأن محدش بقى بيسأل عليا؟!"، ولا تعرف إن كان يعنيها أم يُطلقها ساخرًا.
فيديو قد يعجبك: