طالبة بعد الخمسين.. "أم محمد" فلسطينية تُحارب الأزمات بالتعلم
كتبت-دعاء الفولي:
منذ أكثر من 25 عاما وبينما كانت وطن عليوي في الشهر الثامن من الحمل، اقتحم جنود الاحتلال الإسرائيلي، منزلها بمدينة نابلس، وأخذوا زوجها. في السنوات التالية عانى الزوج من الاعتقال مرات متعددة، وبينما تستمر حياته بين الأسر والحرية، كانت وطن على عهدها معه؛ تُربي الأبناء الستة، ترعى مطالبهم، تتابع سير القضايا، وتزوره في السجن كلما سُمح لها. تحمّلت السيدة الفلسطينية الكثير، لم تمل من المسئولية، غير أن حلما واحدا ظل يراودها؛ أن تستكمل دراستها، لذلك وبينما هي على مشارف السادسة والأربعين، التحقت بجامعة القدس المفتوحة، لتحصل على الشهادة في الخمسين.
في يناير الماضي أنهت وطن دراستها، لتصبح مُعلمة للغة الإنجليزية، والآن وبعد مرور أشهر تنظر السيدة الخمسينية لمسيرتها بفخر، وتفكر في إنشاء نادِ لتعليم اللغة الإنجليزية للأطفال في نابلس، فيما تُزاول ما تحب الآن بأكثر من جمعية خاصة.
حينما قررت وطن العودة لم تفعل ذلك من فراغ "دائما أردت التطوع في تعليم الأطفال لكن كانوا يطالبوني بشهادة جامعية"، أجّلت السيدة الفلسطينية حلمها كثيرا "لأن أولادي كانوا صغيرين"، لذا بمجرد أن اطمأنت عليهم حتى تفرّغت لحلمها.
جامعة القدس المفتوحة كانت قِبلة وطن ما أن أخذت قرارها. لكن قبل تقديم الأوراق "كان زوجي كتير مستغرب من قراري"، فوقتها كان خارج السجن "وقاللي إنك من زمان متحملة مسئولية كبيرة جدا، وما إنك مستحملة حاجة كبيرة زي هيك"، إلا أن إصرارها على العلم جعله يوافق "قولت له أنا بدي أكمل، وأنا مدركة تماما أبعاد قراري".
كأن الزوج سميح عليوي على علم بما سيحدث، فبعد العام الأول من دراسة وطن اعتقله الاحتلال للمرة التاسعة لمدة 33 شهرا متواصلة "هاي كانت أطول مرة ياخدوه فيها"، ذاقت الأم لستة أبناء الفَقد، زاد عليها الألم بابتعاد الزوج وتوالي المسئوليات "خاصة أن أولادي وقتها كانوا بمراحل تعليمية متفاوتة"، بين الجامعة والإعدادية والابتدائية.
"انا اختبرت نفسي بالفصل الأول، كان بدي أشوف إديش بقدر أعمل وجبت علامة عالية"، غير أن الأمور لم تكن بتلك السهولة. كانت وطن تقوم بدورين في عامها الدراسي الأول "في الجامعة أنا طالبة مجتهدة وبالبيت أم حازمة مع ولادها"، قسمت أوقاتها بصرامة شديدة؛ الصباح الباكر لأبنائها، وما أن يخرجوا للدراسة حتى تعتكف على الكتب "ولا اتركها إلا قبيل عودتهم بوقت قليل، لأنه بالجامعة المفتوحة الاعتماد الأكبر بيكون على الطالب"، وفي أوقات الامتحانات "كان البيت معسكر، كل واحد منا مركز في أغراضه".
خلال سنوات دراستها افتقدت الأم ابنتيها "واحدة بتدرس بعيد عن المنزل والثانية تزوجت وسافرت"، كانتا تدعمانها رغم المسافات، لكنها في المقابل اكتشفت أن "ولادي الأربعة الصبيان بقدر اعتمد عليهم"، لم تحتج السيدة الخمسينية شيئا إلا واستجابوا لها "كانوا يوضبوا البيت، يشتروا الاغراض، يطبخوا حتى"، لم يدّخر أحدهم جهدا لمساعدتها "كانوا يضلوا يذكروني كل فترة إنهم أديش فخورين بيا".
منذ زواج وطن لا تتذكر السيدة الفلسطينية أنها نعمت بحياة عادية "ما يمر أشهر إلا ويعود زوجي للأسر مرة أخرى"، أبنائها الستة وُلدوا وأبيهم داخل السجن "كان زوجي يخرج والولد عمره عام او أكثر"، فتّ ذلك في عضد الأم، وجعلها أكثر صلابة "وقتها قررت إنه ما عم ضيّع حياتي، لأنه الوقت اللي زوجي فيه داخل المعتقل، كنت أحيانا بتمنى لو بعمل شيء يفيد المجتمع"، لذا تحملت وطن الكثير، فرغم أن الفترة الأولى بعد اعتقال زوجها مرت بسلام، غير أن ثمة أوقات مرّت بصعوبة شديدة.
في السنة الثالثة من الدراسة، وبينما تقترب اختبارات نهاية العام، أخبرها محامي زوجها أن ثمة ثلاث جلسات قادمة "وجميعهم كانوا بوقت اختبارات لي"، فِزعت السيدة "ضليت أقول أنا ليه عملت بحالي هيك"، تلفتت حولها بحثا عن مساعدة، أفضت بضيقها لأولادها في إحدى الجلسات العائلية "قالولي احكي للأستاذ يمكن يقدر يساعدك".
بقلب يائس وأيادي مرتعشة، ذهبت الأم إلى إدارة الجامعة وأساتذة المواد "كنت بقول لحالي لو الأمر انتهى برسوبي، فهضل فخورة إني عملت اللي بقدر عليه"، غير أن الواقع اختلف؛ فوجئت زوجة الأسير بدعم ومودة شديدين من الجامعة "وافقوا يأجلوا مادتين"، أما الثالثة فقد أعفتها الجامعة من أداء امتحانها "لأنه الأستاذ عارف إن درجاتي فيها مرتفعة طوال العام فتخفيفا عنّي أعطاني الدرجة على أعمال السنة وامتحان منتصف العام".
الاعتقال الإداري مؤلم "ما بنعرف إمتى بيخرجو زوجي.. غير مسموح لنا بالزيارة إلا كل ستة أشهر.. ما كنت بشوفه غير لدقائق وقت المحاكمة"، مرّت أيام عصيبة على الزوجة الوفيّة، تمنّت وقتها لو تُفادي أي شيء بحرية زوجها، وبينما تواجه الظروف بشجاعة، كانت الأيام ترق عليها من حين لآخر، تذكر حينما جاءها تدريب للتدريس بمدرسة ابتدائية، تصادف أنها مدرسة ابنها الأصغر "إديش جمال ابني كان سعيد بيّا وفخور، ضل يقول لزملائه هاي أمي اللي بتدرس هون"، بينما لا يذهب عن عقلها سعادة الأطفال بوجودها.
طوال سنوات الجامعة، استمسكت وطن بحلمها "إنه بدي أعلم الأطفال اللغة الإنجليزية"، كانت الأم الخمسينية تعلم استحالة عملها في مدرسة "لأنه سني صار كبير، ما عندي فرصة للعمل في المدارس الخاصة حتى"، لذا فكّرت في بديل "إني أشتغل في جمعيات بتعلم الأطفال"، خاضت السيدة أكثر من تجربة ناجحة، أقربهم لقلبها هو محو أمية العديد من الأمهات في اللغة الإنجليزية ليستطعن تعليم أولادهن.
الحلم والأمل متلازمان في قلب وطن. السن عندها مُجرد رقم، مازالت لحظات الألم حاضرة، تارة في ابتعاد زوجها داخل الأسر، أو ضغوط المنزل، لكن السعادة تُعالج السوء أحيانا، تتذكر كلمات أحد أساتذتها لها بعدما حازت الدرجة النهائية بمادة مخارج الحروف "قالت لي إنه ما حدا جاب الدرجة دي من تسع سنوات، وقتها بصت لزملائي وقالت لهم إنه شوفوا وطن، سنها أكبر منكوا كتير لكن حماسها متل الأطفال". تضحك الأم مستعيدة تلك الأيام، واحتفاء أصدقائها بها في حفل التخرج "كانوا ينادوني خالتو أم محمد، لكن كنت أحس إني صغيرة، وكبرت مش راح كون كبيرة على التعليم".
فيديو قد يعجبك: