"الثورة صالحتني على البلد".. "مونيكا" تركت إيطاليا للحفاظ على آثار مصر
كتب- أحمد الليثي ومحمد زكريا:
في الرابع والعشرين من نوفمبر 2010، تاريخ لا ينمحي من مخيلتها؛ كان القرار حاسما، جمعت كتبها وطوت ذكرياتها، لملت قصاصات ومخطوطات تذكرها بآثار البلد العريقة وودعت الشوارع بعيون أغرقتها الدموع، اشترت تذكرة طيران اتجاه واحد إلى إيطاليا، دون حجز للعودة. قالت لوالدتها في حزم: "أنا مش راجعة هنا تاني"، غير أن ما جرى بعد 62 يوما كان كفيلا أن يعيدها كرتها الأولى "الثورة جت وصالحتني تاني على مصر.. وقلت مبدهاش بقى".
الأيام التي تلت الثورة كانت مشاهد انتهاكات الآثار تفتت قلب "مونيكا حنا"، ومع حفاظ بعض الثوار على مكتسبات أخرى كحماية المتحف المصري وتحذيرات تخص المواقع الأثرية، ووقوف أهل القرنة بالعصيان لصون أرض الأجداد بالأقصر، عندها بدأت أستاذ علم المصريات في التفكير جديا بالعودة لمصر والاستقرار بها "دايما كان عندي هاجس إن بعد 15 سنة هحكي للطلبة إننا مقدرناش نعمل حاجة.. ولا على الأقل هقولهم حاولت ومسلمناش إننا نسيب الآثار تتسرق".
في نهاية 2012 كانت العودة "وقتها مكنش عندي شغل ثابت.. بعدها بدأت التدريس في الجامعة الأمريكية وحطيت خطة واضحة إني مش هسيب أي ربع فرصة للحفاظ على تراثنا وما اعملهاش.. بدأت أتواصل مع جهات رسمية؛ الرقابة الإدارية، والنيابة، وشرطة السياحة، وبقى عندي أرشيف من الأرض للسقف لملفات أزمات في كل حتة في مصر؛ السرقات من المواقع المسجلة والحفر الخلسة واللعب في المخازن والمشاريع الوهمية والترميم الغلط، ولقيت ناس كتير عايزين يصلحوا".
وخلال 3 سنوات بدأت رحلات مكوكية في العالم كله تتكلم عن آثارنا وضرورة الحفاظ عليها "معدتش عليا أي لحظة ندم.. وطول الوقت شايفة الثورة صاحبة الفضل في إنقاذ كتير من آثارنا، وكفاية إني بحس بوعي الناس اللي زاد وحست إن التاريخ ده بتاعها مش بتاع الخواجات".
قرار الهجرة الذي تبدل لم يكن من فراغ؛ بعد تخرجها من قسم علوم المصريات بالجامعة الأمريكية كان طموح "مونيكا حنا" كبيرا، لا تكل عن التعلم، تذوب عشقا في حب الآثار وما يتعلق بها، حصلّت دراسة الدكتوراة بإيطاليا في 2006، واشتركت في الإشراف على أحد المشاريع المختصة بمواقع أثرية بمصر من خلال منحة للاتحاد الأوربي "بس اكتشفت إن فلوس الدعم بتروح في غير محلها.. وحسيت إن البلد مفيهاش رجا، وقلت الهجرة هي الحل".
قبل اندلاع الثورة بيوم هاتفت "مونيكا" والدتها وهي تقول "يا ماما خزني أكل كويس.. أنا عندي إحساس إن اللي حصل في تونس هيتعاد عندنا"، تلقت الأم العبارات بالضحك، كان الأمر مستبعدا، فيما كر شريط الأحداث حلم "مونيكا" بنهاية فساد نظام مبارك طيلة 18 يوم "مكنش عندي هم غير إن الثورة تنجح"، حين انقطعت الاتصالات في مصر، كان أصدقاء الشابة العشرينية يتواصلون معها من السنترالات بالتليفون الأرضي "وبقوا يحكولي التفاصيل وأنا أوصل صوتهم على فيس بوك وتويتر.. وأنقل الأحداث لكل المهتمين باللي بيحصل".
لم تكن "مونيكا" وحدها من يتعلق بما يجري في التحرير، العالم كله كان يتابع؛ وبينما تحاضر داخل إحدى قاعات جامعة "لوكا" الإيطالية، وجدت هاتفها يسجل 11 مكالمة فائتة من والدتها "أول ما كلمتها قالتلي: أتنحى خلاص"، يومها شعرت "مونيكا" أن مصر عادت لأصحابها الأصليين "جمعت كل أصحابنا المصريين في إيطاليا وعزمتهم على كشري"، تضحك وهي تتذكر أيام انتصار الثورة.
تفخر "مونيكا" بأنها شخص لا يعرف الإحباط "كنت عارفة إني بدخل أيدي في شق الثعابين.. بس الناس معانا وفي جهات حكومية كتير مهتمة تكشف الفساد وساعدونا.. معركتي عمرها ما كانت سياسية اللي يهمني آثار بلدي وتاريخها".
لم تزل تتذكر اللحظة التي قررت برفقة صديقتيها –أستاذة التراث الإسلامي وأخرى مرممة آثار- الحملة المجتمعية للرقابة على التراث والآثار، كان ذلك قبيل أحداث 30 يونيو بأيام "جالنا تليفون إن في محاولات للاستيلاء على أرض منطقة عرب الحصن من مافيا الأراضي واللي بتقوم بالحفر الخلسة والبناء العشوائي عالموقع الآثري عشان عارفين إن الدولة هتبقى مشغولة بالمظاهرات"، طفق في ذهنها فكرة ذكية "عملنا حملة نظافة في المنطقة وجبنا الشرطة والتليفزيون يصوروا.. صحيح اتضرب علينا خرطوش بس وقفنا خطة مافيا الأراضي.. ودلوقتي بقى في بعثة من جامعة عين شمس مسئولة عن المكان".
إنجازات عدة حققتها طوال سنوات خلت؛ إنقاذ 46 قطعة أثرية من الحرق في متحف ملوي بالمنيا وقت هجوم المسلحين عقب فض رابعة والنهضة، تسجيل موقع الشيخ عبادة الأثري بالمنيا والحفاظ على ألف قطعة بقرار من مجلس الوزراء، حماية "بيت مدكور" بحي الدرب الأحمر من الانتهاكات، إزالة المقابر التي بُنيت على الطريق الصاعد للملك سنفرو بدهشور "كنا بنلف في كل حتة وننقذ اللي نقدر عليه، إسلامي وقبطي، فرعوني وروماني.. وجايز فشلنا في حاجات بس الطشاش ولا العمى، وكل حاجة نعملها أفتكر الثورة وأضحك إن كان زماني برة وبمصمص شفايفي وخلاص".
في 2014 شاركت "مونيكا" ضمن فريق صاغ المادة رقم 50 في الدستور المصري، والتي تنص على أن: "تراث مصر الحضارى والثقافى، المادى والمعنوى، بجميع تنوعاته ومراحله الكبرى، المصرية القديمة، والقبطية، والإسلامية، ثروة قومية وإنسانية، تلتزم الدولة بالحفاظ عليه وصيانته، وكذا الرصيد الثقافى المعاصر المعمارى والأدبى والفنى بمختلف تنوعاته، والاعتداء على أى من ذلك جريمة يعاقب عليها القانون. وتولى الدولة اهتماما خاصا بالحفاظ على مكونات التعددية الثقافية فى مصر".
حصدت "مونيكا" جائزة "سيدة الآثار" من منظمة اليونسكو، بسبب مساهمتها في إنقاذ متحف ملوي، وجائزة "Safe Beacon Award" العالمية، والمعنية بحماية الآثار، وحصلت على لقب أفضل خريجة للجامعة الأمريكية –مرتين- في مصر ونيويورك، كانت المصرية الوحيدة من خارج الدولاب الحكومي التي طلبتها الخارجية الأمريكية للشهادة أمام الكونجرس قبيل إمضاء اتفاقية منع الإتجار في الآثار بأمريكا لمدة 5 سنوات.
قبل شهور تيقنت "مونيكا" أن مجهودها لم يُذهب سدى، حين أسست كلية الآثار والتراث الحضاري بأسوان، والتي تتبع جامعة الدول العربية، والتي بدأت الدراسة فيها بأكتوبر 2018، وبينما يتردد اسم "مونيكا حنا" أكثر من مرة لمنصب وزير الآثار، تقول دوما "أنا قيمتي في السبورة اللي بقف أدامها والبحث العلمي اللي بنشره والكام ساعة اللي في المكتبة عندي بالدنيا".
كلما تنظر "مونيكا" لصغيرتها "مايا" تلمع عينيها وهي توقن بأن كل شئ له عمر افتراضي ويزول إلا الآثار لذلك تعلنها دوما "معركتي عشان اللي جاي والآثار مش ماضي دي هي اللي مكملة وهي المستقبل.. والشرارة اللي طلعت من الثورة بالوعي وحقنا في تراثنا وحمايته هتفضل عايشة وهفضل فخورة بها طول العمر".
تابع باقي موضوعات الملف:
"الثورة يعني بناء".. كيف طوّر 24 مصريا قرى الفيوم؟
مّد الثورة إلى الصعيد.. "مجراية" الثقافة والسينما في "ملوي"
جنوبية حرة.. "الثورة في دم بنات أسوان"
قصة "السيد" مع الثورة.. درس التاريخ الذي أسقط حسني مبارك
أثر الثورة لا يزول.. رحلة مبادرة "لاستخدام العقل" من القاهرة للمحافظات
فيديو قد يعجبك: