"خلصنا من الإرهاب دخلنا في كورونا".. طلاب شمال سيناء يستقبلون العام الجديد
كتبت-إشراق أحمد:
حين تأكد الموعد النهائي لبدء العام الدراسي، راح أحمد يسأل والده "بابا لو جالي كورونا هعمل إيه؟"، يجيبه الأب ويهدأ الصبي ثم ما يلبث أن يعاود فتح الحديث عن الفيروس المستجد. لا يمل محمد الكاشف من أسئلة ابنه، إنما يرهقه تبدل الحال؛ ففي أيام قريبة كان أحمد يأتيه متسائلاً بصيغة شبيهة عن مَصاب مختلف "بابا لو حصل تفجير هعمل إيه؟". ما كاد يلتقط ابن مدينة العريش انفاسه من أجواء الحرب على الإرهاب في شمال سيناء حتى حل "كورونا" نزيلاً ينشغل به طالب الصف الثالث الإعدادي بينما يمضي إلى المدرسة.
في شمال سيناء، لم يأت العام الدراسي حاملاً لصفة الاستثناء والاضطراب، بعيدًا عن أنظار العاصمة بنحو أكثر من 300 كيلو مترًا، يعود طلاب 621 مدرسة إلى فصولهم، لم يزدهم "كورونا" قلقًا ولا استثنائًا، بل لعلها من المرات التي يتوحدون في مصابهم مع بقية الجمهورية "كان الإرهاب عندنا أحنا بس دلوقت بنقول أهي الكورونا علينا كلنا" يقول الكاشف من العريش لمصراوي.
للكاشف أربعة أبناء في مراحل تعليمية مختلفة، أصغرهم يلتحق بالمدرسة لأول مرة، هو الوحيد بينهم مَن حرص الأب على شراء مستلزمات الدراسة له "عشان ما احرموش من اللحظة الجميلة دي"، فيما تراجع عن فعل الأمر ذاته مع أولاده الأخرين عملاً بالحد من الاختلاط، ولأن ما لديهم يكاد يكون جديدًا، فحينما تغيرت الأوضاع الدراسية منذ مارس المنصرف، كان الصغار في مقتبل عودتهم إلى المدرسة.
العام الدراسي المنصرف هو الأفضل لأبناء الكاشف "كانوا بدأوا ينتظموا في المدرسة ويرجعوا للحياة وعندهم أمل"، لنحو ثلاثة أعوام تقطع ذهاب الطلاب إلى مدرستهم، بفعل الإرهاب المتمثل في تنظيم داعش على أرض سيناء وتصدي القوات المسلحة له بضربات واسعة آخرها العملية الشاملة عام 2018، اضطر الأب إلى إبقاء أولاده في المنزل والاعتماد على الدروس الخصوصية "كان في تفجيرات جنب المدرسة وتبادل إطلاق نار.. ماكنتش الدنيا أمان زي دلوقت". تحسنت الأحوال حتى مارس المنصرف حين أُعلن إغلاق جميع مدارس مصر لمواجهة الوباء.
عاد أولاد الكاشف إلى المنزل رَغمًا عنهم مرة أخرى، انزوت الأسرة عن محيطها لكن هذه المرة خوفًا من العدوى، ورجع الأب للبحث عن وسيلة تحافظ على مستقبل تعليم أبنائه" كنت بذاكر لهم واحمسهم. قلت لأحمد باعتباره الأخ الكبير هديك 100 جنيه في الشهر وظبط لي أخواتك في الإنجليزي".
ظلت شمال سيناء خالية من اكتشاف إصابات مؤكدة بكورونا حتى 30 إبريل المنصرف، أعلنت مديرية الصحة ثبوت إيجابية حالة وعزلها في مستشفى بئر العبد، من بعدها توالى تسجيل الحالات التي بلغت حتى 15 أكتوبر الجاري 132 إصابة.
التزم الكاشف بالإجراءات، تراجع اهتمامه بأخبار الإرهاب، حل محلها متابعة أحوال الوباء في العريش وخارجها، ومع انخفاض مؤشر الإصابات في المحافظة إلى صفر، راح الأب يمهد لأبنائه العودة للدراسة قبل شهرين "بدأت اوديهم الدروس وأجيب لهم مدرسين".
في ذلك الوقت استغلت رهام الحارون الوقت للاهتمام بالمدرسة التي تتولى إدارتها "قررت ازرع حديقة في الحوش" لم يكن تأكد بعد إمكانية فتح المدارس أمام الطلاب، لكنها كانت فرصة ما أتيحت من قبل في ظل الاضطراب الأمني.
كانت الأجواء في شمال سيناء رتيبة "الناس التزمت بالإجراءات وحظر التجوال" حسب مديرة مدرسة التعليم الأساسي في العريش، لم يكن ذلك غريبًا، اعتاد الأهالي مواعيد منع السير في الشوارع، وكانت للأوضاع تأثير على الوجهات التعليمية للطلاب وصغار السن.
اضطرت عائشة محمد للتخلي عن السيارة التي تنقل أطفال روضتها التابعة لجمعية أبي عبيدة بن الجراح "الطرق اتقفلت من ساعة الحرب على الإرهاب وبقينا نستقبل الولاد اللي ساكنين جنب الحضانة"، جاهدت الشابة للإبقاء على المكان الوحيد المرخص لرياض الأطفال في قرية أبي طويلة شرق الشيخ زويد منذ 2005 كما تقول عائشة "في حضانتين تلاتة لكن مش مرخصة مجرد شقق بتجمع الولاد مش مكان مفتوح".
بعد شهور من الإغلاق، عادت الروضة التي تديرها عائشة، في الأول من سبتمبر المنصرف، فتحت الأبواب أمام الصغار، أثر "كورونا" على مسارها، ليس في تحمل تكلفة توفير مستلزمات الوقاية، والحصول على مصاريف نصف عام، إنما في تقليص أعداد الأطفال مرة أخرى "كنت بستقبل 300 دلوقت قبلت 50 بس.. بقينا ناخد الولاد اللي كانوا معانا السنة اللي فاتت".
مجبورة رفضت مديرة الروضة استقبال المزيد من الصغار، أحزنها هذا مثلما فعلت حين اضطرت لتأجيل خطط المعلمين مع الأطفال "أحنا بنخلص في شهر إبريل بنعمل حفلة للأولاد ونديهم شهادات لكن معرفناش نعمل ده"، لم يكن هناك بديل، فالانترنت ليست وسيلة فعَالة في الشيخ زويد، ليس لضعف الشبكات فقط، لكن لأوضاع الكهرباء التي كثيرًا ما تنقطع، وتُحيل المعلمات في الأوقات العادية للجوء إلى الأعمال اليديوية التقليدية لتعليم الصغار.
تبذل عائشة ورفيقتها في الروضة ما بوسعها للتخفف على الأطفال في الشيخ زويد، وكذلك يفعل الكاشف مع أبنائه، إلا أن ما وقع في محيطه أعاد الخوف لنفسه فسحب أبنائه مرة أخرى من الذهاب إلى الدروس "عندي 3 من أقاريبي توفوا بالكورونا منهم بنت عمتي ماتت من حوالي شهر".
ارتبكت خطى ابن مدينة العريش، وصل المصاب لدائرتهم ويتسع مداه بمرور الوقت "من عشر أيام بنت عمة زوجتي توفت بالكورونا"، بلغ عدد الوفيات في شمال سيناء 35 حالة وفاة، وباتت معرفة الكاشف بأمر جيران وأصدقاء يعزلون أنفسهم في المنزل جراء الإصابة خبرًا يأتيه بين الحين والآخر، لمس الأب بوادر التحذير من موجة ثانية للفيروس، رغم أن المؤشرات لا تُنذر حتى الآن بالخطورة.
يمضي الكاشف أيامه في اشتباك نفسي وآخر مع زوجته؛ تُفضل الأم بقاء أولادها جوارها حتى لو كلفهم هذا انقضاء العام الدراسي، فيما يؤرق الأب ذلك الخيار "الولاد مستواهم كويس حرام أضيع عليهم سنة كمان.. بقالنا سنتين في حرب على الإرهاب وفي 2018 نجحوا الطلبة من غير امتحانات".
يعلم الكاشف أن الأمر لا يخص أبنائه وحدهم، لكنه لا يستطيع التوقف عن التفكير في وقع ذلك عليهم "يادوب خلصنا من الإرهاب دخلنا في الكورونا الولاد نفسيتها سيئة عايزين يتعلموا وفي نفس الوقت خايفين".
ليست العريش من المدن المزدحمة سكانيًا، لا يشغل أهلها التباعد في المناطق السكنية، لكن المشكلة في وسائل النقل والمدارس حسب الكاشف"دي الأماكن اللي فيها تكدس واختلاط عندنا"، يقول الأب، إن الأعداد زادت في فصول المدارس بعد هجرة أهالي رفح والشيخ زويد إلى العريش.
نحو 115 ألف و385 طالبًا بلغ عدد تلاميذ شمال سيناء خلال العام الدراسي 2019/2020 وفق وزارة التربية والتعليم. تضم المدرسة التي تديرها الحارون قرابة ألفين طالبًا، مع إعلان عودة الدراسة، تطوع المعلمون لتهيئة المكان بأيديهم "عملنا صيانة ودهنا الفصول وعملنا خطة لتقليل الكثافة"، لم تلجأ المديرة إلى "صنيعية"، تكفل المعلمون بالأمر حفاظًا على المدرسة وطمأنة الأهالي والطلاب.
اتخذ الكاشف القرار بعدم ذهاب أبنائه إلى المدرسة في الأسبوع الدراسي الأول "مش هخلي أولادي هم اللي يضحوا"، يحزن لتأجيل فرحة أصغر أبنائه باليوم الأول له في المدرسة، في المقابل يتوجه بنفسه ليطمئن على مدى أمان تواجد صغاره، يثق الأب في اجتهاد المعلمين في مدرسة أطفاله لكنه يعلم حجم إمكانيات مدارس شمال سيناء، التي يعافر القائمون عليها لأجل الطلاب، فيما تُوقن عائشة، مديرة روضة أبي عبيدة بن الجراح أن ما عليهم سوى المضي"أحنا قدرنا نتحدى الصعاب.. ما بنقفش إلا لما نعمل كل محاولة تخلينا نكمل حياتنا".
تابع باقي موضوعات الملف:
موسم دراسي مضطرب.. التلامذة في مفترق كورونا (ملف خاص)
أحمال زائدة.. كيف يواجه أولياء أمور تقليص الأيام الدراسية في "كورونا"؟
إجازة إجبارية.. أُسر تؤجل عودة أبنائها للمدارس خوفًا من "كورونا"
ليلة المدارس في "الفجالة".. كورونا يُعكر صفو البيع وفرحة التلاميذ
كورونا+ أول سنة تابلت.. كيف يستقبل طلاب الثانوية العامة العام الدراسي الجديد؟
"خبطتين في الراس توجع".. حال راسبي الثانوية العامة في "زمن كورونا"
حراس نظافة المدارس.. "الدادات" تستعد لمواجهة "كورونا"
"افتح الراوتر واقفله تاني".. أزمات الدراسة في زمن الأونلاين
طوارئ كورونا.. كيف تستقبل ممرضات المدارس العام الجديد؟
عودة الجامعات|باقٍ من الزمن 3 أيام.. وافد سوري لم تظهر نتيجته للتنسيق بعد
فيديو قد يعجبك: