إلى لقاء قريب.. "جواب" من معسكر للأسرى يُعيد الحياة لأسرة مقاتل مصري
كتب- محمد مهدي:
بعد مرور أكثر من شهر على اختفاء "أسعد فهمي" المقاتل بالقوات المصرية، خلال حرب 1967، اعتبره الجميع في عداد المفقودين، طغى الحداد على منزل أسرته في منطقة أبوالمطامير بالبحيرة، النكسة مؤلمة لكن غياب الابن أسوأ، قبل أن تعود الحياة إليهم بوصول خطاب لـ "أسعد" من داخل معسكر للأسرى في سيناء، يُخبرهم عن لقاء قريب، ظل الرجل وذويه يستعيدون تلك التجربة المثيرة مع حلول ذكرى حرب أكتوبر المجيدة التي محت آثار الهزيمة، كما يروي ابنه "شمعي" لمصراوي.
في بداية الستينيات التحق "فهمي" بالقوات المسلحة لقضاء فترة التجنيد، لم يمر وقت كبير قبل أن يجد نفسه في قلب اليمن يشارك في الحرب الشهيرة التي جرت عام 1962، قضى شهور بالمعارك هناك قبل العودة إلى قريته من جديد "بعد ما خلص مدته اشتغل عادي في بنك التسليف الزراعي، وخطب والدتي وقتها (أستاذة جميلات)" وذات يوم في عام 1967 تلقى استدعاء من الجيش للذهاب إلى سيناء "قالهم إنه هيغيب أسبوعين ويرجع تاني" ينقل الابن رواية والده الراحل، لتندلع الحرب بين مصر وقوات الاحتلال الإسرائيلي.
بين ليلة وضحاها تحولت أرض المعركة إلى نيران موقدة، طائرات العدو لا تهدأ، لم يكن "فهمي" وزملائه على جاهزية لتلك الظروف "الدنيا كانت صعبة، وتاه هو وزمايله في الصحرا" توقفت الحرب، القاهرة تلم شتاتها، بينما يبحث أهالي المقاتلين عن أولادهم، لم يصلوا إلى شيء، لا توجد أخبار عن "فهمي" وآخرين، يمر يوم تلو الأخر، الروح تنسحب من ذويهم ببطء وبرود، يتمسكون بالأمل بقدر الإمكان، بينما يقبع داخل معسكر للأسرى في سيناء، غير قادر على طمأنة أحبابه في أبو المطامير.
اختبرت الأسرة والأنسة "جميلات" مشاعر مضطربة خلال تلك الفترة، الشوق واليأس والخوف من المجهول يتجولون ليل نهار في قلوبهم، أدرك "فهمي" ذلك جيدًا لذلك سعى كثيرًا إلى تحقيق مطلبه بإرسال خطابات إلى ذويه، وفق المادة 70 من معاهدة جنيف بشأن معاملة أسرى الحروب، التي تنص على السماح لكل أسير حرب خلال مدة لا تزيد على أسبوع واحد من تاريخ وصوله إلى المعسكر بإرسال بطاقات إلى عائلته.
ووفقا للمادة 71 أيضًا، يُسمح لأسرى الحرب بإرسال واستلام الرسائل والبطاقات. وإذا رأت الدولة الحاجزة ضرورة تحديد هذه المراسلات، فإنه يتعين عليها السماح علي الأقل بإرسال رسالتين وأربع بطاقات كل شهر، وترسل بأسرع طريقة متاحة للدولة الحاجزة، ولا يجوز تأخيرها أو حجزها لدواع تأديبية "وفعلا وافقوا على الموضوع وإن الجوابات تتبعت عن طريق الصليب الأحمر الدولي" كما يقول الابن، ليُرسل أولى خطاباته في التاسع من أكتوبر عام 1967.
حين وصل عامل البريد إلى القرية البسيطة بأبو المطامير حاملًا معه خطاب من "فهمي" فوجيء بعشرات الأهالي يخرجون في صحبته إلى منزل الأسرة "فرحة كبيرة وزغاريد في كل مكان لمجرد وصول الجواب" تلقت الأم وزوجها الخطاب بسعادة بالغة "أول رسالة تطمنهم إنه بخير وعايش" فُتحت أبواب البيت لاستقبال الأقارب والجيران والمعارف، الجميع يأتي للتهنئة ومعرفة فحوى الرسالة "الجواب كان بيجي مفتوح بدون ظرف ، وبيبقى عبارة عن كام سطرين صغيرين".
كتب "فهمي" لشقيقه في الجواب الأول:" الأيام سنين ظلماء حالكة وعيناي لا تجف دمًا ودمعًا على هذه الفرقة المريرة، ولكني سأصبر كما عودتني الحياة التعسة ولا بأس من حكم الله، ثم سلامي إلى والدك وأهل المنزل وسلامي المخصوص إلى جميلات والرجاء تأخد بالك من توريد القطن ودي خدمة عظيمة، وإن شاء الله نحضر قريبًا بعون الله وأنا بخير وصحة جيدة، والحمدلله، من طرف أخيك أسعد فهمي".
حرص "فهمي" على إرسال خطاب بسيط لا يحوي تفاصيل شخصية "لأن كان كل تفكيره وقتها إنه يطمن العائلة بشكل عام وعلى خطيبته (زوجته فيما بعد)" في أواخر الشهر ذاته جاءت رسالة أخرى من سيناء، يطمئن على الأسرة وحبيبته ويطلب سرعة الرد عليه في خطاب ليتأكد من وصول "جواباته" مؤكدًا على اقتراب رجوعه إلى أرض الوطن، وفي بداية العام التالي-1968- أرسل تهنئة بعيد الميلاد المجيد وأنه على بُعد أيام من انتهاء تجربته الصعبة "هانت جدًا" كما دوّن المقاتل من مكانه.
في تبادل للأسرى بين مصر والعدو الإسرائيلي، عاد "فهمي" إلى القاهرة "استقبله خالي عزيز وعدد من أهالي البلد" في الطريق إلى قريته فوجئ بخروج الناس إليه ملوحين بالرايات والأعلام "جابوه من القاهرة لحد البلد بزفة ضخمة" وعند مدخل البلد تراص المئات لتحيته والشد من أزره "كأنه يوم عيد، الناس قعدت يومين تبارك وكان فيه وليمة أكل وزغاريد طول الوقت" أيام لا تنساها البلد حينما استردوا ابنهم بعد فقدان الأمل في عودته.
ولت أيام النكسة، جاء نصر أكتوبر المجيد "والدي مكنش في الجيش وقتها، بس تابع طبعًا باهتمام" مرت سنوات وعقود، حافظت الأسرة على الخطابات في مكان آمن، بعض الأشياء تضيع مع الوقت لكنهم تمسكوا بوجودها كشاهدة على ذكريات لا تنسى "وكل ما تيجي ذكرى نصر أكتوبر كان بيستدعي الذكريات ويحكلنا عن أيام المعسكر والجوابات، والبطولات اللي قام بيها مع زمايله في اليمن وفي 1967، لأنها اللي ساهمت بشكل أو أخر في التمهيد للنصر" وفي عام 1996 رحل "فهمي" عن الدنيا، غير أن الخطابات بقت لتوثيق حكايته.
فيديو قد يعجبك: