بين لمة العيلة ومصير غامض.. حياة مصريين ووهان بعد العودة من الحجر الصحي
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
-
عرض 8 صورة
كتبت - إشراق أحمد وشروق غنيم:
في السابع عشر من فبراير الماضي وبينما يستقبل معتز خفاجي عامًا جديدًا انقضت مدة الحجر الصحي، بعد رجوعه من الصين، بات حلمه قريبًا، قرر العودة لمنزله في سوهاج وحيدًا "مكنتش عاوز أتعب حد من أهلي"، ومع أول لحظة تُفتح فيها أبواب منزله تبدل حاله تمامًا؛ ذابت كل مشاعر الحُزن، حلّ النور على روحه، كان البيت مُزينًا من كل جانب "لقيت زوجتي وولادي وصحابها متجمعين بيحتفلوا بعيد ميلادي"
10 أيام انقضت على عودة خفاجي إلى منزله، ضمن 302 مصريًا انتهت فترة الحجر الصحي لهم. غادر العائدين مدينة ووهان الصينية بعد عزلة، تركوا خلفهم مستقبل وخطط صاحبتهم لسنوات وشهور لينجوا بأنفسهم من الخوف ومرض ينتشر مكان إقامتهم بلا علاج. رجع جميعهم إلى حياتهم الأولى قبل السفر، وبات عليهم معايشة تفاصيل منها الجديد وآخر صادم، فيما يضعون خططًا بديلة تهون ما لاقوه من فترة عصيبة مضت، وتمدهم برؤية حول القادم.
من عُزلة تامة لنحو شهر -ما بين سكنه الجامعي في ووهان والحجر الصحي في مصر- لونس لا ينفّض، هلّت زيارات العائلة والأصدقاء على منزل خفاجي، المدرس المساعد في كلية الزراعة جامعة الأزهر بأسيوط، يلتئم الأذى بداخله حينما يبصر ابتسامة صغيره صاحب الثمانية أشهر "لما سافرت كان لسه مكملش شهر"، ويعوّض بالغياب اللمة مع أسرته التي قدمت من المنيا إلى سوهاج للاطمئنان على ابنها.
بينما لايزال المصير غامضًا نبذ عبد المنعم الشحات الارتباك عن نفسه وغرق في اللحظات الفرحة "ساعات نسمع عن المحن اللي تتحول لمنح.. ده اللي حصل معايا"؛ لم يكن موعد قدومه إلى مصر بالقريب لكن ما فعلته كورونا ثم تحرك السفارة المصرية بالصين لإجلاء المصريين هناك أخذ بُعدًا آخر في حياته، إذ كانا سبب في أن يشهد الشحات لحظة مهمة بحياة صغيرته، تُطيّب له كل الفترة الصعبة التي خاضها "بعد ما رجعت للبيت بيومين كان عيد الميلاد الأول لبنتي مريم، وربنا كرمني إني أقدر أشوف بنتي وهي بتكمل أول سنة في حياتها"، يمتن الأب لتلك اللحظة فلا يفكر فيما هو قادم، يكتفي باللحظات الحانية التي يحظى بها وسط أسرته الصغيرة.
يكمل الشحات الدراسة "أونلاين" ويخطط للعودة بعد انتهاء الأزمة في ووهان، فيما تتجنب عزة عبد الوهاب التفكير في أي شيء سوى أنها عادت لأسرتها. خلاف الكثير ممن أرهقهم طريق الرجوع، مطلع فبراير الجاري، كانت عزة تغوص في سعادة حرمتها النوم طوال نحو 48 ساعة، ظلت الشابة تنظر من نافذة الحافلة بينما رُسمت على شفاها ابتسامة تعجب لها الرفقة، أخذت تتمعن في السيارات والوجوه وتهمس في نفسها "دي مصر بجد.. أنا رجعت".
شعور افتقدته عزة طيلة عامين لم تحظ فيهما بإجازة، وكادت أن تفقده لوقت غير معلوم؛ قبل نحو ساعة فقط من ميعاد طائرة الإجلاء تأكد للشابة الثلاثينية أنها ستنضم للعائدين "ملحقتش أحضر شنطتي في حاجات كتير في السكن الجامعي هناك في ووهان". أفقدها ذلك أوراقها الدراسية، ورسالتها الذي عملت عليها لسنوات وحصلت بشأنها على درجة الدكتوراة، لكنها لم تحزن لحظة "كان حلم أني ارجع. جواز سفري كان في التجديد والمفترض كنت استلمه بعد الإجلاء بـ3 أيام"، ولولا تدخل السفارة المصرية وزملاء لها ما حصلت على وثيقة سفرها.
الآن تبيت عزة في غرفتها، تستيقظ على صوت والدتها التي لم تصدق عودتها هي الأخرى، حتى أنها في الليلة الأولى لرجوعها وبينما تنام الشابة هانئة، أخذت والدتها مرارًا تطل عليها وهي نائمة لتتأكد من وجودها بينهم، ولأجل ذلك تمتن عزة بشدة للعاملين في السفارة المصرية والخارجية، فيما تحتفظ بصور حرصت أن تتحدى الظروف بتوثيقها؛ ففي اليوم الرابع عشر للحجر الصحي، بينما تعد حقائبها للعودة إلى المنزل، نظرت لرداء تخرجها الجامعي ثم قررت "البسه واستأذنت الدكتور ننزل نتصور ربع ساعة في جنينة الفندق ودي كانت حفلة تخرجي وسط زمايل الحجر والممرضات والدكاترة".
حتى اليوم. لا تعلم عزة مصير إجراءات إتمام رسالة الدكتوراه التي ناقشتها قبل أيام من إعلان الحجر الصحي على ووهان، أواخر يناير الماضي، وكان قد حُدد ميعاد لها في مايو المقبل، فقط كل ما تعرفه أنها حظيت خلال نحو شهر بذكريات لن تنسى "عرفت قيمة البيت والعيلة ومصر.. قيمة أن الواحد يكون عنده صحاب بجد مش بالعدد"، فضلاً عن سعيها لمواصلة ما تتمني "أكون همزة وصل بين مصر والصين"، ولهذا كان آخر ما فعلته مع انتهاء الحجر؛ أن أرسلت مع رفاقها المصريين رسالة دعم إلى ووهان "أخدنا صور وفيديوهات وبعتناها لزمايلنا في الصين وكان شعور هايل".
ومن الإسماعيلية حيث تقيم عزة، إلى كفر قنديل بمركز أطفيح –الجيزة-. تشابهت حالة الفرح في منزل شحات عبد الله، غير أنه غاب القلق طيلة 14 يومًا، وحل مكانه مهمة اجتمعت عليها عائلة ومعارف دارس الزراعة في الصين؛ إذ سابقوا الزمن كي يجد الغائب منزله مهيئًا للسكن بعد رجوعه المفاجئ.
كان قد غادر شحات عام ٢٠١٦ للحصول على الدكتوراه تاركًا خطيبته التي لحقت به بعد إتمام إجراءات الزواج في مارس ٢٠١٧. استقرا في ووهان، أنجبا صغيرهما أبو بكر –عامين-، فيما عزم الزوج أن يعود بعد الحصول على الدرجة العلمية، فلم يشغله شقته المنتظرة في بيت الأسرة أن تكون دون "تشطيب".
هنأ شحات بالعودة المبكرة، حتى أنه تناسى أمر ميعاد مناقشة الدكتوراة الذي كان مخطط له بعد شهرين، كما لم يحمل عبء شراء غرفة النوم ومقاعد الصالة التي لم يسعف الوقت للعائلة كي تحضرها. نال قسطًا من الراحلة ليومين، ثم صحب زوجته لشراء مستلزمات غرفتهما، وبعض الأجهزة الكهربائية الناقصة، وخلال تلك الفترة لم تتركه الأسرة "ولاد عمي وأهل البلد مسبونيش لحظة الكل كان معايا وساعدوني لغاية ما فرشت الشقة بالكامل".
في التاسع من فبراير بدأت الدراسة أونلاين لطالب كلية الهندسة الزراعية عبر خاصية Video Call، لكن محمد عراقي لم يستطع اللحاق بها "كنت لسه في الحجر ومقدرتش أتابع عشان فرق التوقيت وقوة الإنترنت" خاطب المحاضرين لتأجيل الأمر فوافقوا "وأول ما رجعت البيت بدأت أتابع المحاضرات".
بعد عودة عراقي إلى منزله صار ملتزمًا بجدولين؛ أولهما صيني بمواعيد المحاضرات الأونلاين "في اليوم ممكن يبقى عندي محاضرة واحدة ويوم تاني محاضرتين"، بالتوازي يتبع جدول مصري خالص "ماما عاملة قايمة لكل يوم بالأكل اللي بحبه، خصوصًا إن الأكل المصري مش موجود في الصين" تبذل الأم ما في وسعها لنفض التجربة السيئة عن ابنها.
منذ انتهاء الحجر الصحي، ويلتمس البعض أبسط التفاصيل للشعور بالعودة للحياة الطبيعية، لم يخبر محمد فتحي أسرته بموعد رجوعه إذ قرر تحضير مفاجأة لطفليه "روحت لهم على النادي، كنت مشتاق لأني أخدهم أروّحهم بنفسي للبيت، أول ما دخلت كانت لحظة جميلة، مالك وحور بقوا يتنططوا، أحضان بقى وعياط، كان أحلى استقبال بالنسبة لي ينسيني كل الضغط العصبي اللي عيشته"، ينغمس في الأجواء العائلية "بأقضي وقت أكبر مع ولادي"، فيما صار روتين حياته اليومي اصطحاب أبنائه إلى النادي "أو إني ابقى مستنيهم لما يرجعوا من المدرسة".
شكّلت الدراسة كل أوقات فتحي حتى مع الخطر في ووهان أو داخل الحجر الصحي في مصر، في المعمل الصيني كان يقضي قرابة 10 ساعات فحص النباتات التي يتابعها منذ ثلاث سنوات لتجميع أكبر قدر من البيانات قبل العودة إلى مصر، ومنذ عاد "بكتب رسالة الدكتوراه عشان مضيعش وقت"، رغم بعده عن بؤرة القلق، لكن لم يغادر الخوف نفس فتحي "لحد دلوقتي بحاول إني مسلمش على حد بالإيد أو آخد مسافة شوية، عشان أرفع الحرج عن أي حد برضو".
في المنازل حل الفرح في قلوب أهل العائدين وهدأ القلق، لكن ثمة قبضة في نفس مصطفى طاهر تؤرقه إلى اليوم "حاسس أن في حاجة ناقصة.. كأن شيء اتسرق مني". مازالت الصدمة بالرجوع عبر الإجلاء بعد شهور من السفر تلوح بتفكير الشاب.
خلاف العديد سافر ابن مدينة الإسماعيلية في منحة جامعية لدراسة اللغة الصينية، وليس للحصول على درجة علمية، إذ يدرس طاهر بالسنة الثالثة في كلية أداب –لغة صينية- بجامعة قناة السويس، ومنذ سبتمبر 2019 سافر للصين على أن يقيم في ووهان لمدة عام حتى يتم منحته ويعود، لكن ما منى به نفسه انقلب مع دقات العاشرة صباحًا يوم الخميس 27 يناير المنصرف.
في ذلك اليوم أعلنت الحكومة الصينية فرض الحجر الصحي على مدينة ووهان، أُغلقت المدينة على مَن فيها، فيما كان طاهر يعد نفسه للسفر إلى مدينة هاربين –شمال شرق الصين- في السادسة مساءًا لقضاء عطلته التي بدأت 25 ديسمبر، قبل 6 أيام من إعلان انتشار المرض "كانت الأمور طبيعية قبل فرض الحظر. حجرت تذاكر السفر والفندق على أساس أقعد 10 أيام وأشوف أماكن تانية في الصين"، لكن المشهد تبدل؛ من برد ثلج تمنى أن يراه في هاربين، إلى إحساس أكثر برودة بالوحدة والاكتئاب بعدما ألغى الرحلة ولزم مكانه بالسكن الجامعي، داخل مبنى ذي 18 طابقًا يخلو بمرور الأيام، حتى بات يجده طاهر أقرب لـ"بيت رعب".
لا يأسى طاهر على ما فات، إلا أنه يمضي أيامه ما بين الحزن لتبدل الخطط والفرح بالنجاة، فتجربته الأولى مع السفر خارج مصر حملت أكثر مما توقع "لو حد قالي إني هفضل عشر أيام محبوس مبعملش حاجة غير أني أنام وأكلم أهلي مكنتش أصدق أني أقدر استحمل"، فيما يغالب صاحب الواحد والعشرين ربيعًا ما يعتريه بإعادة التفكير في تدبير القدر "لو كنت سافرت هاربين ومفضلتش في ووهان يمكن مكنتش عرفت أرجع مصر"، يضع طاهر نفسه أمام احتمالات أسوأ بخسارة مادية ومعنوية أعلى، وينظر إلى أسرته ووالدته التي كانت "هتموت من القلق"، فيتناسى مخططه القديم ويعود لسكينته، ومتابعة المحاضرات من غرفته عبر الانترنت.
بث مباشر لضحايا كورونا حول العالم:
وما بين لحظات قلق وحزن وفرح عاشها العائدون، ثمة أوقات الارتباك تغمر البعض، فرغم انتهاء الحجر الصحي، لكن محمد جمال قرر أن يفرض على نفسه حجرًا آخر "هقعد أريح في البيت أسبوعين أو تلاتة مش هحاول أخرج". فترة عصيبة مر بها ابن مدينة المنصورة.
لم يكد يعتاد جمال الحياة بالخارج حتى اضطر لمغادرتها، "5 شهور على التجربة. حضرت بس الترم الأول" بلسان مرهق يقولها طالب الدكتوراة في جامعة هواتشونج بمدينة ووهان الصينية، فيما يحاول أن يلملم شتات أمله، ويتجاوز ما يتسلل إليه من الشعور بالخيبة، فقبل عام سجل الأستاذ المساعد في كلية التجارة جامعة المنصورة رسالة الدكتوراه، لكنه أوقفها بعد قبوله في منحة الحكومة الصينية "وبدأت المشوار من أول وجديد. لكن الحمد لله".
لا يملك الشاب العشريني سوى الانتظار ومتابعة ما تسفر عنه الأيام القادمة "الدراسة بدأت أون لاين في الجامعة مستني يبعتوا لي إيميل بطريقة التواصل وحضور المحاضرات"، سيستكمل جمال الدراسة لكن في نفسه ثمة تساؤلات وترقب "هشوف الوضع هيستقر والنظام إزاي وبعدين هقرر أرجع تاني ولا لا؟".
بينما زالت لحظات الفرح سريعًا من حياة خفاجي، لازال شبح العُزلة يلوح في حياته، حين فوجئ الأب الثلاثيني بمكالمة من معلمة ابنته صاحبة الخمس سنوات لزوجته "بتسأل أنا روحت الحجر ولا لاء، ولو في إجراءات ياخدوها مع البنت خوفًا على باقي الأطفال"، شبح العزل عاود خفاجي مجددًا لكن هذه المرة مع صغيرته "مفيش وعي إننا خلصنا مدة الحجر الصحي ومعندناش حاجة، خايف في المدرسة يتجنبوها".
حاول خفاجي التخفيف عن ابنته "قولتلها دول بيسألوا عليا عشان عايزين يشتروا كوتشي شبه اللي جبتهولك من هناك"، فيما يأمل بأن تذهب ذكرياته مع انتشار فيروس كورونا إلى زوال، وألا تُنغّص عليه خطته للعودة لحياته الطبيعية التي يُخطط لها "من الأسبوع الجاي هرجع تاني للسكاشن بتاعتي في جامعة أسيوط عشان أدرس للطلاب لحد ما أعرف مصير المنحة إيه في الصين".
فيديو قد يعجبك: