رحلة البحث عن عيد.. ابتكارات مسيحيين للاحتفال بأحد الشعانين رغم عزلة كورونا
كتبت - شروق غنيم:
لا يزال المشهد يسكن نفس الشماس الإكليريكي أبانوب شوقي، يقف في مقدمة الكاتدرائية، بينما يرتل قُداس وألحان أحد الشعانين، بجوار البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية، بطريرك الكرازة المرقسية. لكن الحلم تفتت بين ليلة وضُحاها، حينما أغلقت الكنائس الأرثوذكسية في مصر أبوابها للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد في الـ21 من مارس المنصرف، ارتبكت خُطى الشاب العشريني "أحد السعف وأسبوع الآلام أقدس أسبوع في السنة، زي دلوقتي ببقى واقف جمب قداسة البابا".
تغير مسار احتفال الأسر المسيحية في مصر بأحد الشعانين، خلت الشوارع من بائعي السعف، أغلقت الكنائس والأديرة أبوابها، التزم المواطنين منازلهم، بينما أطّل عليهم البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية، بطريرك الكرازة المرقسية من دير الأنبا بيشوي بوادي النطرون، صباح اليوم الأحد، ليترأس القداس وحيدًا دون شعب الكنيسة.
السابعة صباحًا بدأ الشماس العشريني يومه، تابع الصلوات مع قداسة البابا عبر شاشة التلفزيون، يتمم صلاته رغم ذلك يُدرك أن ثمة روحًا ناقصة "إني أكون في الكنيسة في يوم زي ده، مفيش حاجة تعوض الإحساس ده"، يُلقي نظرة على أبيه الستيني فتبوح عيونه بكل شئ "انطفى شعورنا بالعيد".
كانت تلك النظرات دافعًا للشماس العشريني لرسم ملامح العيد في منزله، أعّد رُكنًا للصلاة استعاد به المشهد في الكنيسة. غلف طاولة خشبية برداء أسود، ثم وضع أعلاها صورة للمسيح رافقتها بعض الورود "لو مش هنقدر نروح الكنيسة، فكل بيت ممكن يبقى كنيسة يتصلى فيها"، بينما في الليلة السابقة ظفر بالسعف أخيرًا.
كانت أمارات الحسرة على وجه أبيه "والدي بقاله ستين سنة من وهو صغير ومتعود يجيب سعف، فإنه ميدخلش البيت السنة دي كانت كارثة بالنسبة له"، عافر الرجل الستيني للحصول على إحداهما حتى لو صغيرة الحجم "مادام حاجة مش هتضر ومخالفناش أي قرار باباوي يبقى ليه مندورش؟"، ظل الأب متابعًا حتى جاءه خبر خفف من وطأة الأزمة "حد قطف لنا سعف من نخلة وأنا روحت خدت منه"، ما إن دخل الشماس العشريني أرض المنزل "بابا كان طاير من الفرحة" انكسرت موجة الحزن في المنزل وانهمك أبانوب برفقة والده ووالدته في تضفير السعف.
طوال الأمس أخذت تعيد رنا عادل على مسامع صغيرها كريستيانو ألحان "الجالس فوق الشاروبيم، وهي إحدى ألحان الكنيسة التي تُرتل في أحد الشعانين.. بيحكي قصة اليوم وكمان صغير وسهل بالنسبة للأطفال"، تُعد صاحب الأربعة أعوام حتى يستطيع الترتيل معها صباح اليوم الأحد "تابعنا الصلاة، وهجيب قناة كوجي عشان فيها ألحان للأطفال".
كانت الأم الثلاثينية متلهفة لأحد الشعانين هذا العام "لأن كريستيانو هيكون مستوعب للأحداث"، طيلة العام الجاري وعكفت رنا على سرد حكاية ذاك العيد "وبقى مستنيه، كل شوية يقولي يا ماما هيجي إمتى عشان نروح الكنيسة بالسعف"، لكن السؤال الذي كان يدب بها الحماس صار مصدرًا للانقباض "بقيت أشرح له إننا مش هنعرف نروح السنة دي عشان كورونا والكنيسة قافلة"، فما كان من الصغير إلا الغضب "بقى مضايق جدًا إننا مش هنعمل ده".
ظل على هذا الحال حتى وجدت الأم الحل، على إحدى المجموعات الخاصة بالخدمة المسيحية "شوفت بنت عاملة أفكار إزاي نعمل سعف في البيت بتفاصيل بسيطة"، كان ذلك ملاذًا لها لكي تسعد صغيرها "جبت ورق وألوان وشفاطة وعملنا سعف"، تبدل الحال في المنزل، ارتسمت الابتسامة على وجه كريستيانو فيما أمد والدته بالطاقة نفسها فقررت تخصيص مساحة للصلاة بما يُحاكي المشهد داخل الكنيسة "حطيت وشاح أسود على كوميدينو البيت وفوقه الصليب"، ورغم أن ذلك لم يطرد عن نفسها الشعور بالوحشة " لكن السنة دي بدل ما نروح بيت ربنا، دلوقتي بنستقبله جوه بيتنا".
لأول مرة يختبر ماهر مكرم ذلك الشعور؛ لا سعف في منزله ليلة أحد الشعانين، والذي يمثل له مثل سائر المسيحين بُعدًا روحيًا ودينيًا، فالاحتفال يُحاكي مشهد دخول السيد المسيح إلى أرض أورشليم وغمره أهلها بأغصان السعف والزيتون، ثم هتفوا بالعبرية "أوشعنا" أي "خلصنا"، كما ذُكر في العهد القديم.
للحصول على السعف بهجة في نفس الأب الأربعيني، فالسنوات المنصرفة اعتاد على مشهد شباب منطقة أبو زعبل بتسلق النخيل للحصول على السعف، ثم ينغمسوا طوال الليل في تجديله وتضفيره لتزيين البيوت والكنيسة "أكتر ناس كانت بتتبسط بده هما الأطفال، للأسف ماتت بهجة العيد بالنسبة لهم".
أحد الشعانين له مكانة خاصة في قلب مكرم، يقضيه بأكمله داخل الكنيسة؛ في الصباح الباكر يحضر القُداس، وفي الثانية عشر ظهرًا "نعمل صلاة الجناز العام تخلص الساعة 2" ثم يعود مرة أخرى إلى الكنيسة في السادسة مساء "نصلي صلاة البصخة ونستعد لأسبوع الآلام.. أغلبية المسيحيين بيعتبروا ده أهم يوم بالنسبة لهم، لأنه مليان بالنسبة لنا أبعاد روحية عميقة".
لكن هذا العام يقضيه بينما لا يبرح منزله "عملت ركن صلاة لأسبوع الآلام في البيت"، رغم ذلك يقول إن ثمة طقوس لا تستقيم بدون وجودها في الكنيسة "القداس ملوش معنى من غير كنيسة"، لكنه يُدرك أهمية الوضع الحالي "آدمية الإنسان لها الأولوية"، لذا يُحدث ابنائه عن أهمية التمسك بروح العيد داخل قلوبهم، بينما يبتلع شعوره بالحزن "ده حدث مبيتكررش غير من السنة للسنة، وممكن ملحقوش تاني لو مليش عُمر".
في منزل مينا باسوم، صار نموذج محاكاة مُصغر من الكنيسة، تدبر صاحب الـ27 عامًا أجواء الكنيسة "عملت نفس ديكورات الكنيسة عشان منخسرش بهجة العيد"، مثل رُكن مخصص لصلاة أسبوع الآلام البيت "عملنا صليب زي الكنيسة، اشتريت شمع والصور والأيقونات، وكمان حاجات ليها روائح الكنيسة الحلوة، والكتاب اللي فيه الصلوات وقدرت أجيب سعف صغيرة".
كانت للأجواء فيما مضى مذاقًا آخر للشاب العشريني "كنا بنقطع السعف بإيدينا ونقعد طول الليل نعمله أشكال وأعلقها فوق السرير"، لكن هذا العام لم يتمكن من تضفير السعف "لأن اللي معايا صغيرة جدًا، يادوب تبقى بركة للبيت وعشان منكسرش العادة"، أراد أن يُدخل البهجة على نفس والده ووالدته "لأنهم متأثرين جدًا، حاولت بقدر الإمكان أعمل محاكاة للكنيسة والعيد في البيت كنوع من التصبيرة ليهم لحد ما نرجع الكنيسة من تاني ونحتفل".
فيديو قد يعجبك: