بلد "الزحمة" و"أكل العيش".. لماذا يصعب تطبيق "التباعد الاجتماعي" في مصر؟
كتب- محمد زكريا ودعاء الفولي:
رسوم- سحر عيسى:
يخشى جمال زيتون الإصابة بكورونا، لكن عجز الإنفاق على أسرته يُخيفه أكثر. تهاتفه زوجته بينما يوصل أحد زبائنه، تُعيد عليه إلحاح صاحب المنزل في طلب الإيجار، يغمر سائق التاكسي الحزن، فيقول "هتصرف النهارده وندفع"، عالما أنه سيقترض المبلغ من أحد زملائه. لا تنفك إرشادات المنظمات الصحية تُخبر المواطنين بضرورة تقليل التواصل مع الآخرين، والاحتماء بمنازلهم ما استطاعوا، لكن تطبيق ذلك مستحيل لمن يعملون بشكل يومي؛ فبعضهم لا يملك دخلا ثابتا أو يدفعهم طريقهم من وإلى العمل للمرور بين زحام البشر والمواصلات، فيما يضطر آخرون للتعامل المباشر مع الجمهور داخل مؤسساتهم. التباعد الجسدي بالنسبة لهؤلاء حلم، يبحثون عنه دون فائدة.
خلال 3 أشهر تقريبا، أصاب فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) حوالي مليوني شخص حول العالم، منهم 2190 داخل مصر حتى مساء أمس.
منذ 10 سنوات، يعمل زيتون، 64 عاما، على سيارة أجرة، يستأجرها مقابل 150 جنيه يوميا، "عشان يطلعلي 150 زيهم آخر النهار، وحسب التساهيل"، كان ذلك قبل حلول 2020 وفي يدها وباء كورونا الذي ينتقل بالرذاذ، سواء باستنشاقه أو بملامسة الأسطح التي استقر عليها.
سبب الفزع من (كوفيد-19) ركود في عمل ابن حي المقطم، لدرجة "إني في يوم روحت لصاحب التاكسي قولتله معملتش غير الـ150 جنيه، وعشان ابن حلال قالي هات الـ100 وخد الـ50".
رغم ضعف الطلب على خدمة زيتون، فلا يملك الرجل رفاهية الالتزام بالحجر المنزلي "مين هيأكلنا ويشربنا؟"، فهو يعول زوجة و7 بنات "واحدة مشبوكة والتانية على وش جواز"، ولأجلهن يحرص على اتخاذ إجراءات تقيه شر الوباء "بمسح كراسي العربية بالمياه والكلور، وربك العالم بالحال وقادر يكفينا شر الأمراض.. اعقلها وتوكل".
خلال عمله، يسعى السائق لتطبيق التباعد الجسدي قدر الإمكان "لما ألاقي زبون يعطس أو يكح، أجيبهاله بشياكة وأقوله أقعد ورا عشان صدرك والسيجارة، ولو زبون قفل الشباك أقوله افتحه عشان النفس في العربية.. والناس مُتفهمة في الظروف دي".
زيتون ضمن نحو 4.3 مليون شخص، ممن لا يملكون دخلا ثابتا، ونسبتهم 20.2% من إجمالي المشتغلين، وفقا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، حتى الربع الثالث من العام 2019، هؤلاء الأكثر تضررا من الإجراءات الاحترازية في مواجهة الوباء، كالإغلاق الكامل للمقاهي والجزئي للمحال التجارية والحرفية والمطاعم وفرض حظر التجوال، ما دفع الحكومة لتعويضهم بمنحة استثنائية قيمتها 500 جنيه شهريا تصرف لمدة 3 أشهر، قدم للحصول عليها مليون و900 ألف شخص، قبل استبعاد ما يقرب من 500 ألف من "غير المستحقين"، كما صرح محمد سعفان، وزير القوى العاملة.
رغم انخفاض قيمة المبلغ بالنسبة لزيتون، تعتقد شيرين الشواربي، أستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، أن المنحة هي البديل الأكثر عدالة بين حلين: أولهما ارتفاع قدر ما يتقاضاه الفرد مقابل قلة عدد المستفيدين. وثانيهما أن يقل ما يتقاضاه الفرد مقابل زيادة عدد المستفيدين، والأخير اختارته الحكومة المصرية ووفق الإمكانيات المتاحة، متمنية في حديثها لـ"مصراوي" زيادة المخصصات المالية لتعويض العمالة اليومية عما لحق عملهم من ركود، وزيادة تلك التي تخص قطاع الاتصالات لتيسير العمل من المنزل والتعليم عن بعد، حيث تم تخصيص 100 مليار جنيه لمواجهة تداعيات الأزمة، بهدف تهيئة البنية التحتية لالتزام المواطنين بإجراءات السلامة.
لم يحجز زيتون نصيبا من التعويضات الحكومية، أعاد الرجل التقديم على موقع وزارة القوى العاملة مرات، لكن "كل ما كنت آجي أدوس إرسال يقولي برجاء كتابة الرقم القومي المكون من 14 رقم، رغم إني كاتبه"، لتفوت عليه الفرصة، مع إغلاق باب التقديم بنهاية الخميس الماضي، مستمرا في الطواف بالشوارع بحثا عن زبون جديد.
منتصف مارس الماضي، فرضت الحكومة حظر تجوال جزئي، الآن يبدأ في الثامنة مساءً حتى السادسة صباحا، ما جعل الساعات الثلاث التي تسبق الحظر وقت ذروة.
يتذكر محفوظ إبراهيم ذلك اليوم جيدا، حين قطع مشواره بسيارة الأجرة خوفا من عدم مقدرته دفع المبلغ الذي سيقرره العداد "كنت لسه في نص الطريق ولقيته عامل 35 جنيه بسبب الزحمة.. خفت ونزلت مشيت على رجلي ساعة إلا ربع لحد البيت".
يقطن صاحب الخمسين عاما في منطقة لعبة التابعة لمركز أوسيم بالجيزة، يستقل 3 مواصلات يوميا من منزله للعمل والعكس، فيما لم يغير فيروس كورونا المستجد من مساره "لأن اللي جاي على قد اللي رايح ولو ركبت تاكسي مرة في الشهر هستلف بقيته".
يعمل الأب المُصاب بمرض السكري حارس أمن في شركة بمنطقة المهندسين، يركب "توكتوك" من منزله "بالنفر" لـ15 دقيقة "بنبقى أربعة جوة التوتوك.. 3 ورا وواحد جنب السواق"، قبل أن يصل لموقف الميكروباصات "اللي بيوديني للإسعاف ومن هناك باخد حاجة للمهندسين.. والميكروباصين بيكونوا معجنة".
يعرف إبراهيم جيدا إجراءات التباعد الجسدي، لكن ما باليد حيلة "إحنا بنجري على الميكروباص مرة واحدة نزق في بعض عشان نلحق نروح شغلنا"، لا مجال هُنا للحماية "لو حاولت حتى آخد مكان فاضي جنبي محدش هيسمح لي"، يخرج الحارس 3 مرات أسبوعيا "ولو عليا منزلش خالص أو أخلي تاكسي تحت إيدي عشان ملقطش أي عدوى وأجيبها لولادي"، فما عليه إلا أن يرتدي القفازات في الشارع "والكمامة الصراحة بتكسف ألبسها.. الناس بيستعيبوها وبيبصولي في المنطقة كأنهم خايفين أكون عيان".
في المقابل، وبحكم عمله في وسط القاهرة، يستقل محمد الهادي مترو الأنفاق، وسيلة المواصلات الأسرع، والأرخص مقارنة بباقي وسائل النقل.
قبل احتدام أزمة كورونا، وصل عدد مستقلي المترو حوالي 3.5 مليون راكب يوميا، بحسب المركز الإعلامي لمجلس الوزراء، لينخفض العدد بعد انتشار الوباء إلى حوالي الثلث، حسبما صرح كامل الوزير، وزير النقل والمواصلات، بالتزامن مع إجراءات اتخذتها الوزارة لتخفيف التكدس داخل عربات المترو، كزيادة عدد القطارات، وتقليل مدة التقاطر إلى دقيقتين، وهو ما انعكس على رحلة الهادي الصباحية من محطة كوبري القبة إلى سعد زغلول "دلوقتي الساعة 9 الصبح بلاقي المترو رايق، المشكلة بتكون وأنا راجع من الشغل الساعة 5، بيكون زحمة موت عشان الكل عايز يلحق يروح قبل الحظر".
لتجنب مخاطر الازدحام، يتبع الهادي حيلة "فيه زمايل لي في الشغل بيروحوا قبلي، بطمن منهم المترو زحمة ولا لأ، لو زحمة بركب سكوتر"، لكن في حال استقل المترو "بلبس الكمامة والجوانتي"، محاولا أن يُبقى مسافة بينه وبين الآخرين "ومطلعش إيدي من جيبي، ولا أقعد على الكرسي إلا لو تعبان".
ما يثير خوف الشاب "البياعين اللي بيجوا يرموا الحاجة في إيدك"، فيما يواجه ذلك "برش كحول على هدومي وإيدي"، وعندما يعود للمنزل "مراتي تدخل العيال الأوضة وتقفل عليهم، عشان ميجروش عليا يحضنوني زي ما متعودين، عقبال ما أنا أغير هدومي وآخد دش".
يسلك محمد بحيري مترو الأنفاق أيضا، لكن منذ اشتعلت أزمة كورونا، قلل مرات ذهابه للعمل "بدل كل يوم، بقينا 3 أيام، ومش 8 ساعات، بنبدأ 9 ونخلص واحدة". ضمن 23 ونصف مليون موظفا في القطاع الخاص، يعمل الزوج الأربعيني في مؤسسة أهلية تابعة لوزارة التضامن الاجتماعي، تُعطي قروضا للمحتاجين "وطبعا بنتعامل مع جمهور بشكل يومي"، وهنا تبدأ المشكلة، على حد قوله.
منذ حوالي شهر، بدأ أصحاب الأعمال تقليل أيام ذهاب الموظفين على غرار قرار مجلس الوزراء فيما يتعلق بالمصالح الحكومية، بينما وفر مكان عمل "بحيري" أدوات التعقيم الأساسية، حاولت الإدارة فرض التباعد الجسدي "بإن الناس تقف برة المؤسسة ويدخلوا واحد واحد"، لكن تطبيق ذلك بدا مستحيلا مع تراكم الأعداد، ليتعين على "بحيري" تدبر سلامته بشكل ما.
ليس ثمة عازل بين الأب الأربعيني والجمهور سوى مكتب خشبي "وطبعا بنعد فلوس وبنستلم فلوس أقساط"، لا يفعل شيء سوى تعقيم يده، وتوعية من حوله بضرورة ترك مسافات بينهم "بس مش كل الناس بتتقبل الكلام للأسف حتى لو ده هيضرهم ويضرنا"، خاصة أن يومي الأحد والاثنين يشهد الفرع الذي يعمل به فيهما ذروة الزحام "ممكن يجيلنا في المتوسط 500 عميل".
يحكي "بحيري" عن أحد الأيام عندما كانت "الناس متكدسة قدام المكتب عشان تلحق الدور وفيه أماكن انتظار ممكن يفضلوا فيها"، طلب من بعضهم الذهاب للمنطقة الخالية "فوجئت بحد بينفعل وبيقولي أنا أقف براحتي"، لا يتوقف الأمر عند ذلك "فيه ناس بتسخر أصلا من الإجراءات اللي بنحاول ناخدها"، كان إغلاق بعض فروع المؤسسة الممتدة لخمسين مكتبا، مطروحا بعد انتشار الفيروس المستجد "بس للأسف إحنا زي البنوك.. لازم نحصل الأقساط من الناس واللي محتاج قرض ياخده".
اضطرار الخروج يرافق أيضا مصطفى حسن وأمير صابر؛ إذ يعمل الشابان بصيدلية شهيرة، واحد يبيع الدواء للزبائن، والآخر يوَصّله إلى المنازل "لا عندنا رفاهية تقليل التواصل ولا إننا نسيب الشغل".
حسن مقبل على الزواج، لذا يلتزم بمصروفات "أقساط الشقة وتجهيزها" ولا يلتفت لمخاطر التواصل مع حالات مشتبه في إصابتها "بيبقى المريض خارج من الحميات، وواخدين منه العينة وقاعد مستني النتيجة، ويدخل عندي الصيدلية"، بينما يقي نفسه بحثّ "الزبون" على الالتزام "بأن محدش يعدي الشريط اللي بيمنع حد يدخل الصيدلية، وبيسمح بحوالي متر ونص ما بين اللي جوة واللي برة".
رغم التعب، والخوف من الوباء "مش هفكر أقعد عشان ممكن مالاقيش بعد كده شغل، ساعتها مين هيدفع مصاريف المعهد؟"، فصابر بات الآن عائلا لأسرته "بعد ما حال ورشة الدوكو اللي أبويا شغال فيها وقف"، وتلتزم والدته "بفلوس قروض وجمعيات".
لكن سارة السويدي استطاعت الحصول على إجازة من العمل، بعدما داهمتها كُحة البرد قبل شهر، ظنت الشابة أنها بمنأى عن التواصل مع الآخرين، إلا أنها تسكن بمنطقة إمبابة، من أشد البقع زحاما في مصر، فسكانها مليون نسمة أو أكثر، وتقع على مساحة حوالي 8,28 كم2، مما يُصعب تجنب التجمعات والاختلاط.
تغادر السويدي المنزل كل ٣ أيام، لتوفير حاجة أسرتها من الطعام، يرتفع حذرها للحد الأقصى بسبب الزحام "وبصراحة مش بلبس كمامة عشان بتخنقني، بس بستخدم مناديل لو عطست أو كحيت"، لكن تراقب كل لمسة بيديها للأشياء "بفتح باب الميكروباص بكوعي، وبحاول مسندش على حاجة، وبرضه معايا الكحول دايما بطهر به إيدي".
في الوقت نفسه، لا يعبأ كامل مصطفى بإرشادات التباعد. تغير وحيد طرأ، فبدلا من الالتقاء بأصدقائه في "القهوة"، بات "سطح" منزل صاحب الـ28 عاما مسرحا للقعدة، بعد أن أُغلقت المقاهي ضمن إجراءات الحكومة الاحترازية لمواجهة كورونا.
يعي المحامي الخطر الذي قد يُسببه الاختلاط، لكن يجد لنفسه مبررا "أنا مقدرش على الحبسة في البيت، وبعدين ما أنا بنزل الصبح أروح المحكمة عشان شغلي، فقعدتي مع أصحابي اللي عارفهم كويس مش هتكون أخطر من الشارع"، فقط يعتقد أن "اللي يحس إنه تعبان من نفسه ميجيش يقعد معانا"، متجاهلا أن بعض ضحايا الفيروس لا تظهر عليهم أعراض.
يتعلق الأمر بثقافة الفهلوة، كان هذا تحليل عزة فتحي، أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس، لتهاون البعض مع الالتزام بالتباعد الجسدي، مفسرة: "دا لأن الناس عندها إحساس غريب بالثقة إن مفيش حاجة هتحصل لها ودي اتكالية موجودة في بعض الشخصيات مش إيمان بربنا".
يلتقي مصطفى بحوالي 10 أشخاص يوميا "قعدتنا حلوة، وبرضه مش لازقين في بعض"، ورغم المخاطر، يرتب الشاب مع رفقائه خططا للمستقبل "شيلنا العشش من السطح، وبنفكر نجيب ترابيزة بنج".
تربط أستاذة علم الاجتماع تلك التصرفات "بإنه مفيش حد يعرفوه اتصاب فكدة الموضوع بعيد"، فيما تقول لمصراوي إن ثقافة الاستهانة رسختها سخرية البعض مع بداية انتشار الفيروس "ناس كتير على فيسبوك كانوا بيقولوا إحنا مصريين مش هيحصل لنا حاجة".
لا تستطيع جهاد عبد البصير القراءة والكتابة، لكن أبناءها حدثوها عن "كوفيد -19"، علموها بضعة أشياء أساسية منها الحفاظ على مسافة آمنة بينها وبين المحيطين "لما بروح أجيب خضار مش بقف في الزحمة.. ونفس الحال مع العيش والمستلزمات التانية، بحاول آخد جنب"، تقلل الأم لأربعة أولاد ركوب المواصلات أيضا "عشان مخبطش في حد".
تخرج السيدة الأربعينية يوميا من منزلها بحي الهرم، لتشتري الطلبات لسيدات المنطقة وتحصل على المقابل المادي "لازم أكون لابسة جوانتي وكمامة عشان دي أرواح ناس وأنا كمان خايفة على نفسي".
لكن خطوات التباعد أحيانا تكون صعبة التطبيق "أنا طول اليوم في الشارع.. ولو أنا بحاول أبعد غيري مش هيعمل كده"، لهذا وضعت جهاد ميزانية لأدوات النظافة والوقاية، فيما ضغطت تلك المصروفات على ظروف منزلها "اللي بيدخل لي في الشهر حوالي 2000 جنيه".
تستخدم جهاد قفازين في اليوم الواحد "سعر الفردة 2 جنيه"، وتستهلك كمامة واحدة أسبوعيا "ولو اتزنقت أوي ممكن يبقوا اتنين"، كانت مع بداية الأزمة تشتري الواحدة بـ4 جنيهات "دلوقتي بسبعة جنيه أو بعشرة جنيه"، وفي أيام أخرى تستغل ما لديها، فتغسل القفاز والكمامة بالصابون جيدا لإعادة الاستخدام، رغم تحذير "الصحة العالمية" بعدم فاعليتهما سوى مرة واحدة "بس هعمل إيه؟.. على الأقل تحميني شوية وسط الزحمة".
فيديو قد يعجبك: