إعلان

"وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا".. هل مسّكَ خشوع "المنشاوي"؟ (بروفايل)

11:21 ص الثلاثاء 16 يونيو 2020

الشيخ محمد صديق المنشاوي

كتبت-دعاء الفولي:

ما إن بدأ الشيخ محمد صديق المنشاوي في الترتيل، حتى بكى حاضرو العزاء، جلس أهل المُتوفى يستمعون، غلّف النحيب السُرادق، اجتمع الناس من الشوارع المحيطة بمستشفى أم المصريين بالجيزة، فاض العدد عن المكان، ارتكنوا للسيارات، خرج السُكان للشرفات، لا صوت إلا له، ساعة ونصف لم ينظر فيها الشيخ لجمهوره، ينظر للسماء إذ يقرأ "رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا "، يُغمض عينيه حين يتلو وصف الجنات، يُحييه الجمهور فلا يلتفت، كأنما يرتدي الآيات فلا يخلعها أبدًا.

عاش محمد صديق السيد تائب في بيت قرآني بمدينة المنشأة بسوهاج، وجد نفسه بين أب وعم وأخوة يُرتلون، لكن روح المنشاوي مختلفة، يكسر صوته جدار الأرواح الموحشة، يروي من حضروا لياليه حكايات فريدة؛ عن جلسته الخاشعة، واتخاذه وضع التشهد في الصلاة وقت القراءة لعدة ساعات دون تعب، ينزل صوته بردا وسلاما على السامعين، يتنقل بين المقامات بخفة، يقرأ "سيكا"، "عجم"، ويلمع في "النهاوند"، لكن من لا يفقه المقامات يعتقد أنه لم يتلُ سوى الـ"صبا"؛ مقام الحُزن.

رحل بعض الأحبة عن المنشاوي مُبكرًا، زاد ذلك خشوع صوته، تُوفي أخوه أحمد الأصغر في الخامسة والعشرين، أحيا هو عزائه، قلبه يكاد ينفجر من الحُزن لكن القرآن يؤنسه، قرأ وقتها آية "يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ".. صمت قليلاً وأعجزه البكاء عن الكلام، أتى صوت والده من المأتم مناديًا "ذكّر يا ولدي.. ذكّر الناس"، ظل الشقيق المكلوم يُكرر الآية 20 دقيقة، يُرثي شقيقه ونفسه التي باتت دون رفيق. كان المنشاوي يفرح بالقرآن ويبكي به، يتضرع به إلى الرب، ويُصاحب به شيوخ المجال.

صلة المنشاوي بالشيخ محمد سلامة وثيقة، تعلم منه الكثير، عاش داخل منزله لفترة رفقة الشيخ كامل البهتيمي، كان سلامة غزير القراءة لكنه لم يُحب تسجيل الحفلات، من عايشوه علموا حُبه للشيخين، حتى كان أحدهم يأتي ليقول له "أنا بحب تلميذك يا شيخ سلامة"، فيرد سريعًا "أي واحد فيهم؟ محمد ولا كامل؟"، كان المنشاوي تلميذًا نجيبًا، أخذ من روح أستاذه ولم يقلده، كذلك تشرب من البهتيمي، ظلا رفيقين في الحياة وعند الموت، إذ فارق البهتيمي الحياة في فبراير 1969 والمنشاوي في يونيو من نفس العام.

لم يكن للمنشاوي طقوس قبل القراءة، فقد حمل القرآن منذ أتم السابعة وحتى رحل، اعتاد في شبابه وقبل تناول طعام العشاء، قراءة رُبع، لم يحتج وقتًا للدخول في حالة الخشوع لأنه لم يغادرها، لكنه حرص على الإتقان في الصعيد حيث الحفلات التي يحضرها والده، ينفصل عن الجالسين بجسده، ويُراعي القراءة المنضبطة، يقع في نفسه الخوف أن يُخطئ دون قصد، كان الجمهور يُدرك ذلك، فحينما يُريدونه أن يكرر آية، يقف أحدهم ليقول بعلو صوته "عيد عشان خاطر الشيخ المنشاوي أبوك"، أو يُقطع قراءته آخر لينادي "عيد وإلا هقول لأبوك الشيخ".

كيف لقارئ عاش 49 عامًا فقط أن ينتقل صوته عبر الزمن؟، كيف ظل السميعة إلى الآن يطوفون مصر ليحصلوا على حفلاته النادرة، يملك واحد منهم فقط 1200 تسجيلاً، ويبحث آخرون فتظهر لهم تلاوات جديدة، ينشرونها في كل مكان؛ يجتمعون في بيت أحدهم ليتذوقوها، أو يرفعونها عبر المنصات المختلفة؛ يسمعه شبابٌ بعضهم لا يعرف شكله، لكن خشوعه يخترق قلوبهم؛ يُعلقون عبر موقع ساوند كلاود "رفقًا بقلوبنا والنبي يا شيخ".

لا يعرف المنشاوي عوازل السنين، من أحبوه حديثًا يلتقطون قراءته بين المئات، كأن كيانه اختفى وراء حنو تلاوته، لا شيء يمنع حلاوة صوت المنشاوي عن مُحبيه، لا موجات الأثير، ولا التسجيل السيئ، ولا ساعات الوقوف خارج الصوان، من شهدوا لياليه يتذكرونها كالحِلم، كأن معية الله تتكشف لهم كل مرة من جديد.

فيديو قد يعجبك: