"مشتاقين يا أحباب مكة".. المتطوعون في الحج يفتقدون "ضيوف الرحمن"
كتبت-إشراق أحمد:
لم ينتظر سطام الراجحي أن تحسم المملكة السعودية الأمر بشأن الحج هذا العام، طيلة الشهور الماضية حصل على العديد من الدورات الإلكترونية داخل المملكة وخارجها عن مكافحة فيروس كورونا المستجد، عقد الشاب العشريني النية على التواجد بين الحجيج إن ما فُتحت أبواب مكة، قنت إلى الله داعيًا ألا يُحرم من الفعل المحبب لقلبه، ثم جدد العهد الذي قطعه على نفسه قبل 8 أعوام "نذرت إني أكون كل سنة متطوع لخدمة ضيوف الرحمن إلى أن يأخذ الله منيته".
أكثر من مليون و800 ألف حاج استقبلتهم المملكة السعودية العام الماضي، وما يعادلهم يفدون كل عام، حسب وزارة الحج والعمرة، في المقابل يطوف عشرات المتطوعين من الشباب السعودي بين المناسك لتقديم المساعدة للقادمين من كل فج، يجدون في ذلك مذاق لا يقل عما يستشعره المشتاق لأداء فريضة الحج، ألفوا التعب وباتوا ينتظروه كل عام، لكن مع تفشي الوباء المستجد، يستقبل المتطوعين الحدث المنتظر هذا العام بمشقة غير معتادة. مشقة الفقد لجموع الملبين.
في يونيو الماضي، أعلن وزير شؤون الحج والعمرة محمد صالح بنتن، إقامة مناسك الحج بأعداد محدودة تقتصر على المقيمين في السعودية من جميع الجنسيات، حينها دبت السعادة في نفس الراجحي، تحققت دعواه بألا يُعلق الحج هذا العام، ورغم عدم وضوح مصير التطوع، إلا أنه عزم "بإذن الله راح ننزل متطوعين في خدمة العدد المتواجد".
يعلم الراجحي الفرق بين أن تكون حاج ومتطوع لخدمة ضيوف الرحمن، ذاق ذلك عام 1432 هجريًا (2010)، وقت أن قصد مكة لأداء الحج "عرفت كيف المتطوع بيتعب لكن سعادته أكتر. الحاج يسعد بإتمام الفريضة والمتطوع يسعد لإعانة الحاج لإتمام الفريضة"، لذا قرر بالعام التالي أن ينضم لفرق التطوع وألا يبرح أرض مكة وقت الحج.
هناك 6 مجالات للتطوع في الحج، التحق ابن مدينة الطائف باللجنة الطبية، التابعة للأكاديمية السعودية للتطوع الصحي، أصبح مسعفًا، يتوجه كل عام مع إحدى الفرق، ينزلون إلى المشاعر المقدسة، مِن عرفة لمزدلفة، مرورًا بمنى وانتهاءً بمنشأة رمي الجمرات، تدور أعينهم لعل أحدهم يحتاج مساعدة وتدخل بالإسعافات الأولية، يتذكر كم ذاب عنه إحساس المشقة مع ابتسامة أحدهم بعدما عالج قدمه المصاب أو خفف عنه ضربة شمس ألمت به "لما يدعي لنا حاج هذا يخلينا ننسى التعب كله".
لأعوام يغوص الراجحي بين صفوف الحجيج، يطالع التغيرات من تفاوت الأعداد والخدمات المقدمة، يعايش الأحداث في الساحة المقدسة، السعيد منها والمؤلم، لذا يدرك استثنائية هذه اللحظة بوجود "كورونا"، هي له بقدر ما عايش عام 2015 وقت واقعة التدافع في منى "شيء عمري ما أنساه بحياتي".
كان المسعف المتطوع على مقربة من مكان الحادث، هرع لنجدة الحجيج، وجد سيدة تكاد تلفظ أنفاسها "كنا نحاول إسعافها بالإنعاش القلبي بالضغط على الصدر"، لم يلحظ الراجحي ابنها الصغير من خلفه، إلا مع إسعاف الأم "كان يضربي ظنًا منه أني جالس أضربها" كلما ضغط الشاب لإنعاش السيدة، بكى الطفل وزاد من ضرباته للمسعف، لكن لم تفلح ضربات أي منهما في إنقاذ السيدة.
مازال يتذكر الراجحي الحادث الذي زاد من عزيمته لمواصلة المشوار، يحمله في نفسه كما يحفظ نظرة والده وهو بين الحجيج قبل عامين "كان سعيد جدًا برؤيتي وأنا بزي التطوع لخدمته وخدمة الحجاج أجمع".
تترك رحلة الحج أثرًا مختلفًا في نفس صاحبها، وكذلك يفعل التطوع لخدمة ضيوف الرحمن؛ أقنعت سهيلة نورولي أسرتها لأول مرة أن تغادر المنزل لنحو 10 أيام وتسكن بعيدًا عن جدة، أرادت طالبة التمريض أن تخوض تجربة تتعلق بمجال دراستها في جامعة الملك عبد العزيز، لكنها وجدت أكثر مما تخيلت "تعلمت الكثير من الصديقات اللاتي كنّا نرافقهن، ومن شعوري بالمتعة تحت الضغط والشغف المتواصل للعطاء".
للمرة الأولى تطوعت سهيلة في حج العام الماضي، ذهبت رفقة زميلاتها إلى مخيمات الحجاج لتوعيتهم بالمشكلات المتداولة في تلك الفترة، ثم تواجدت بقلب المناسك، في محطات صغيرة للإسعافات الأولية، داوت الإغماءات الناجمة عن انخفاض وارتفاع السكر أو الضغط، عالجت جروح الأقدام نتيجة طول السير.
لن تستطيع سهيلة تكرار تجربة التطوع في الحج هذا العام بسبب "كورونا"، تحزن ذات الواحد والعشرين ربيعًا، لكنها تجد العزاء في استكمال الدراسة والتعلم لتقديم المساعدة في المسشتفيات، فيما لا تنسى ما تركه التطوع في الحج من صبر في نفسها.
على مدار 8 أعوام، وفي التوقيت ذاته، تعلم أسرة الراجحي ورفاقه بالعمل أن ميعاد غيابه قد حان؛ مع دخول ذي الحجة يمضي ابن مدينة الطائف متفرغًا لإعانة صنوف من البشر شدت الرحال إلى الأراضي المقدسة، وفي العيد أصبح رد والده معروفًا "سطام ولدي في مكة متطوع لخدمة الحجاج"، وكذلك كان حال نواف العتيبي طيلة 7 أعوام "كنا نفرح بالعيد بين الحجاج"، أما هذا العام، لأول مرة يشارك أسرته يوم عرفة، وينقطع عن ميدان الحج مضطرًا لظروف "كورونا".
يوقن العتيبي أن كل شيء يقع بقدر، لكن ذلك لا يمنع عنه الحزن لفراق الأوقات الطيبة داخل الحرم ومشاعر الحج، خلاف العديد من المتطوعين، كان منسق الفرق الكشفية التابعة لجامعة الطائف يبدأ المهمة من شهر رمضان، يتطوع لخدمة المعتمرين، ثم مع حلول شهر شوال وذو القعدة تحين مرحلة الإعداد والتأهيل، وأخيرًا في ذي الحجة يتواجد بالميدان، لنحو 15 يومًا يغيب العتيبي عن منزله وعمله، ليقضي الوقت متطوعًا.
لم يؤدِ صاحب السابعة والعشرين ربيعًا فريضة الحج، لكنه كان يستشعر ذلك في كل مرة يتطوع فيها؛ ففي منى وعرفات ومزدلفة يقف مستقبلاً الحجاج ومساعدًا التائهين منهم حتى العثور على ذويهم، وكذلك تتضمن مهمته كمتطوع في فرقة الكشافة أن يصحب فوج من الحجيج لا يقل عن 200 حاج وإرشادهم لأداء مناسك الحج، ويكون مسؤول عنهم حتى رجوعهم إلى أماكن إقامتهم، وإن انهى الشاب ذلك وبقى وقت فراغ، انضم إلى المتطوعين لتوزيع المياه والمشروبات والمأكولات المجانية على الحجاج.
يفتقد العتيبي التواجد في حضرة الحجيج هذا العام، يشتاق إلى جرعة المحبة الخالصة التي يتزود بها كل عام، لا يتخيل حاله الأسبوع القادم مع مجيء عيد الأضحى، يخفف عن نفسه بالتواصل مع مَن استمرت صحبتهم بعد الحج، مثل "أم محمد" الحاجة المصرية، المسن التي التقاها وابن عمها العام الماضي، ولازمها أكثر من 17 ساعة كانت فيها تائهة.
يتذكر العتيبي اليوم كأنه الآن "في يوم عرفة في تمام الساعة 9 صباحًا وجدتها تائهة لا تعرف شيئًا أبدًا"، لا تملك السيدة هاتف، لا تحفظ رقم تواصل ولا تعرف أين سكنها، تلقفها متطوع الكشافة بينما كانت "أم محمد" منهارة تحمل أدويتها، هدأ من روعها وأخذ اسمها ونشره بين المراكز الخاصة بالحجاج التائهين، وبقيت السيدة معه حتى جاء مرافقها "ومن يومها وهي بتقولي روح يا ابني ربنا يفتحها بوجهك وينور دربك ويرزقك"، يبتسم العتيبي موقنًا أن مثل هذه الدعوة تصنع السعادة في القلب.
تفاصيل الحج لا تُنسى، من ارتحل إليه تهفو نفسه له كل عام، ومَن تواجد بين جموعه ازداد يقينًا بأن لكل غمة كشف قريب، فلن يمر يوم عرفة دون أن يستعيد الراجحي ما حدث العام الماضي، وقت أن اشتدت الحرارة لتصل 42 درجة، ولفحت الشمس الرؤوس حتى انهارت قوى أحد الحجاج بينما ينصحه الشاب باصطحابه إلى المستوصف، فإذا بغيمة ينزل بعدها الغيث؛ مطر يُغير المشهد إلى جنة من بعد اللهيب، حينها وقف الحاج المصاب بضربة شمس مكبرًا وملبيًا، فيما يحدث الراجحي نفسه "كنا نحاول نسعفه فجاء الإسعاف من الله . تبدل الحال من تعب وشقاء إلى فرحة"، وهكذا يقين المتطوع مع "كورونا" فالعُسر لا ينقضي إلا بيسر ولو بعد حين.
فيديو قد يعجبك: