بيزنس ودواء.. لماذا قد تربي "عقرب" في بيتك؟
محمود الشال
يحرص "محمد بوشتا" كل صباح على الاطمئنان على صغاره؛ ليراقب تصرفاتهم بدقة ويدونها في دفتره، ويمنحهم نصيبهم من الطعام الغني بالبروتينات، الذي يروق لعقارب "لوريس" حيث يمتلك منها 4000 عقرب ساكن على حفنة من الرمال، داخل صناديق بلاستيكية مرصوصة رأسيا على قوائم خشبية بجوار الحائط، وفي حجرة لا تتخطى مساحتها 4 أمتار.
"لوريس" هو أحد الأنواع الأكثر انتشارا بين العقارب في مصر، إضافة إلى غنى سمومه بالبروتينات التي جعلته الأعلى سعراً في العالم، والتي تتمتع سمومها بخصائص فريدة وتدخل في الأدوية؛ لتعالج الكثير من الأمراض المختلفة وتحمي أيضا من الإصابة بالأمراض المزمنة.
مشروع مربح
يبيع بوشتا (29 عام) الجرام المستخلص من سم العقارب بـ12 ألف جنيه، ويصدر إنتاجه إلى خمس دول حول العالم: أمريكا وبلجيكا واليابان وفرنسا المستورد الأكبر، والصين، حيث أبرم مع جامعة ووهان صفقة بـ12 جراماً "ستدخل في تجارب معملية للقاحات ضد كورونا لقدرة السم على رفع مستوى مناعة الجسم بشكل فائق أكدتها دراسات عديدة" وفق بوشتا.
يعتبر محمد بوشتا -خريج كلية الآثار- أن مشروعه هو الأعلى ربحا مع وجود فجوة كبيرة في السوق وارتفاع السعر وتوفر العقرب في مصر بكميات ضخمة.
ويمكن استخلاص واحد جرام سم شهريا من 1000 عقرب، ويبدأ ثمنها في فصل الصيف من 7 آلاف جنيه تقريبا.
يعتز بوشتا بعقاربه يقول "كلها منفعة.. السم اللي بيطلع ببيعه والنافق من العقارب برضه ببيعه يتعمل إكسسوار"، تعلم كيف يستفيد من كل شيء في مشروعه الذي بدأه قبل سبع سنوات تقريبا وبالملاحظة والاطلاع على الأبحاث العلمية حوّل مشروعه من الهواية للاحتراف.
يحاول بوشتا قدر الإمكان محاكاة الطبيعة الصحراوية التي يعيش فيها العقرب، للحفاظ على حياة العقرب، حيث يجلب للعقارب نفس نوعية الرمال من نفس المكان الذي صيد منه العقرب، ويوفر دفايات في الشتاء للحفاظ على درجة الحرارة داخل الغرفة "رغم كل ده ما أقدرش أحاكي الطبيعة بأكثر من 70%" وهي نسبة مقبولة تضمن بقاء العقرب سنتين.
"العقارب اللي بتتولد برجعها الصحراء.. لما تكبر اصطادها تاني"، يقول إنه يحاول الحفاظ على التوازن البيئي ونشر التوعية بين الصيادين بعدم الصيد الجائر ولا يشتري أبدا العقارب الصغيرة.
العقارب تأكل البروتينات وتحولها إلى سموم
العقارب معروفة بلسعاتها الخطيرة، فهي عاشت على الأرض منذ 400 مليون سنة، بفضل سمومها التي تستخدمها في المقام الأول في شل حركة فرائسها، ما تسبب في سمعتها السيئة.
ويتكون سم العقرب من مخاليط معقدة للغاية من الببتيدات والإنزيمات والبروتينات المخاطية، والأحماض الأمينية الحرة والنيوكليوتيدات والدهون والأمينات والمكونات غير المتجانسة والأملاح غير العضوية وربما مواد أخرى غير معروفة، وفق دراسة بعنوان "مكونات سم العقرب كمرشح محتمل لتطوير الأدوية" في قسم الطب الجزيئي والعمليات الحيوية، معهد التكنولوجيا الحيوية، الجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك.
كنز المركبات الطبيعية
تختلف آثار لدغة العقرب من الألم البسيط إلى القصور في عضلة القلب والموت، حيث تلدغ العقارب 1.2 مليون شخصا، بينهم 300 ألف وفاة سنويا، ولكن من المفارقات أن التنوع الكبير لمكونات سم العقرب يمثل كنزًا في المركبات الطبيعية التي يمكن أن تجد طريقها في النهاية إلى الأدوية، مع احتمالات لا حصر لها من الأدوية، حيث يدخل سم العقرب في أدوية تشمل مضادات الميكروبات والملاريا وضعف المناعة ومضادات للسرطان، والتهاب الكبد الوبائي، والسكري، والحصبة والسارس، وفيروس الهربس، وفق الدراسة.
وتقول الدراسة إن سم العقارب اكتشاف واعد للأدوية؛ لأنه يعالج الكثير من الأمراض، ويمكن دمجه مع المضادات الحيوية التقليدية، ما يفتح نافذة جديدة للتجارب السريرية.
"السموم أكثر تعقيدا وقوة مما ندرك" يمكن أن تقتل البكتيريا والفيروسات، وتساعد في تشخيص وعلاج للسرطان، كما يؤكد الدكتور محمد عبدالرحمن الأستاذ المشارك في جامعة قناة السويس، والذي درس الحيوانات السامة على مدار 20 عاما.
ينتظر "عبدالرحمن"، حتى غروب الشمس، في ليالي معتمة يغيب عنها القمر كما يصفها، ثم ينتقل غربًا إلى صحراء سيناء ويخرج مصابيح الأشعة فوق البنفسجية؛ نظرًا لأن أجسام العقارب تتوهج باللون الأزرق والأخضر الساطع تحت ضوء الأشعة فوق البنفسجية، فيمكنه مطاردتها بسهولة بالغة.
يعود إلى المختبر ويعمل على استخلاص السم من العقرب باستخدام الكهرباء منخل الغدة السم في نهاية الذيل، يقول إن السم من العقار بمزيج بيولوجي قوي، مضيفا أنه شارك في دراسة مع آخرين من اليابان والمكسيك أثبتت أن سم العقارب يحمي خلايا الكبد من الإصابة بفيروس سي، بفضل أحد الببتيدات التي تسمى Smp76. كما أنه يقضي على فيروس حمى الضنك.
ويقول إن الحيوانات الأصلية في دول مثل مصر يمكن أن تفيد الناس في جميع أنحاء العالم، ولكن البحث حول السموم منطقة مهملة نسبيا ويجب بذل المزيد من الجهد لفهم إمكانيات هذه الأدوية، وهو الأمر الذي يدفع أغلب مربي العقارب لخوض غمار هذا العالم الغامض نسبيا ولكن هذه المرة كان من المهندسة شيماء محمد.
لم يمنع لمعان الأظافر الطويلة نسبيا للمهندسة شيماء محمد (25 عام) ونعومة يديها، من تربية ألف عقرب في محافظة قنا/588 كم / جنوب القاهرة
"ولادي.. ممكن أصحى من النوم أروح أطمن عليهم"، حيث تربي "شيماء" العقارب في منزل بمنطقة غير مأهولة بالسكان نسبيا حتى لا تسبب إزعاجًا لجيرانها، لكن "راهنت على تحويل هذا الكائن المرعب لكائن مفيد طبيا ومادياً".
أثناء دراستها في كلية الزراعة بجامعة سوهاج، حلمت شيماء بتأسيس مزرعة ماشية بعد التخرج، ولكن بعد توظيفها في شركة سماد عضوي كان مقر عملها بالصحراء، وفي أحد الأيام لدغ العقرب أحد العمال؛ ليضج الموقع بصراخ على الفقيد المحتمل الذي سييتم أبناؤه.
على مدار أيام بعد الحادث، مضت شيماء الوقت تفكر فيما جرى، وتتأمل العامل الذي أفزعهم، وكيف لهذا الكائن الصغير أن يفعل كل ذلك، ولم تكن تعلم أن مقدار السم في لدغة العقرب غير كافية لموت شخص بالغ.
"نزلت القاهرة وحاولت آخد كورسات.. كل الناس اعتبرتني بنت مجنونة جاية من قنا"، وأمضت سنة كاملة تقرأ عن العقرب حتى حصلت على دورة تدريبية في القاهرة، وكان أمامها خياران: الاكتفاء بما عرفته أو دخول منطقة مهملة كما وصفها الدكتور محمد عبدالرحمن آنفا للاستفادة من سموم العقارب الغنية بالبيبتيدات.
وبدأت مشروعها في شهر فبراير الماضي، رغم ارتفاع سعر العقارب نظرا للبيات الشتوي، لكن المشروع كلفها 10 آلاف جنيه ثمن ألف عقرب و400 جنيه ثمن كيلو جرام من دود "ميل وورم" الغنية بالبروتينات، وهي الغذاء المفضل للعقارب، ورغم أنها بدأت المشروع بتكلفة أعلى من تكلفته الفعلية في فصل الصيف لكنها ترى أنه مربح جدًا.
توضح شيماء أنها تستخلص من ألف عقرب ما يساوي جرام شهريا بقيمة 12 ألف جنيه أي أن المشروع يغطي تكاليفه في أول شهر مع أرباح 1600 جنيه، على أن تكون الأرباح بعد ذلك ما يعادل 12 ألف جنيه شهريا، "العقرب ما بياكلش كتير.. ممكن 7 دودات كل 10 أيام"، كانت تذهب إليهم في البداية يوميا لكنها حاليا تذورهم بمعدل ثلاث مرات في الأسبوع حيث لا تحتاج العقارب لرعاية مكثفة أو مستمرة، لكن شيماء تحب التواجد معهم ومراقبة سلوكياتهم.
تضيف أن البيئة في قنا تشبه البيئة الطبيعية التي يعيش فيها العقرب، ففي الشتاء درجة الحرارة جيدة لا تحتاج إلى دفايات، وبالتالي يمكن محاكاة البيئة الطبيعية بسهولة عن طريق توفير الرملة فقط.
تقف شيماء وسط الحجرة بين أقفاص العقارب تتذكر مشقة سنة كاملة تبحث عن أماكن لتتعلم وتدرس عن العقارب، ملقية باللوم على مناهج كلية الزراعة، حالها كحال باقي الكليات المصرية البعيدة عن سوق العمل، "المشروع خارج الصندوق حتى العقارب الصغيرة أو النافقة أبيعها لزميلاتي تصنع منها ميداليات يدوية".
تقول بنشوة فرح "حققت حلمي وبتعامل مع العقارب علي إنهم ولادي وعملت بيزنس وبامسكهم بأيدي وبرعي العقارب حديثي الولادة وببيع أغلى سم في العالم للاستفادة منه طبياً".
* القصة جزء من مشاركة الصحفي في مشروع "العلم حكاية" بمعهد جوتة وبتمويل وزارة الخارجية الألمانية.
فيديو قد يعجبك: