أصحاب المقامات العالية (3).. ضريح أبي الحجاج الذي يعانق الحضارة الفرعونية على أطرافه (بروفايل)
كتبت-هبة خميس:
وسط إعدادات الزفاف وتجهيزه من شراء الملابس الجديدة ومتطلبات البيت الجديد وتوزيع الشربات على الجيران، خصصت العروسة يومًا كاملًا قبل زفافها لزيارة ضريح العارف بالله سيدي أبو الحجاج الأقصري، الموجود بمعبد الأقصرعلى كورنيش النيل، تجهز الفتاة أطباق الأرز باللبن والتمر والقرص الصغيرة المخبوزة باللبن والسمن لتوزعها على الناس لنيل بركات الضريح الذي سيؤمن لها زواجًا سعيدًا وإنجابًا سريعًا.
في أوائل القرن السادس الهجري ولد العارف بالله أبو الحجاج في عهد الخليفة العباسي المتقفي لأمر الله بالعراق، وُلد لأسرة كريمة حيث تولى والده منصب كبير في الدولة العباسية ويمتد نسبه للإمام علي ابن أبي طالب، توفي والده وهو شاب ولم يترك له شيئًا يُذكر فتعلم الغزل والحياكة، ويحكي الإمام السهروردي عنه واقعة بأن شخص قتل رجلًا ودخل على أبي الحجاج هاربًا، فكان لحانوته بابان؛ فقال القاتل أجرني أي ساعدني، قال له أبو الحجاج أنزل الجوزة والمقصود بها حفرة النول بين فخذي أبي الحجاج، فدخل عليه الناس يبحثون عن القاتل فقال لهم أنه في الجوزة، ردوا عليه بأنه يسخر منهم ثم انصرفوا، فقال القاتل أتيتك لتجرني فدللت علي، فقال أبي الحجاج: لو كذبت لوجدوك فقتلوك ولكن نجاك الله منهم بصدقي.
المميز في مسجد وضريح العارف بالله أبو الحجاج الأقصري هو تعانقه مع معبد الأقصر، حيث يتواجد في الجهة الشرقية للمعبد وبُني منذ ثمانية قرون، ويعتبر من الآثار الإسلامية المميزة حيث يضم أعمدة فرعونية ورومانية بني على أنقاضها، وتم ترميمه من عام 2007 حتى عام 2009، وأثناء الكشف عن الحوائط الأصلية للمسجد عُثر على نقوش فرعونية تعود لعصر رمسيس الثاني بخلاف السقف الخشبي والقبة المميزة، المختلف في المسجد هو أسراب الحمام التي تُطالعنا حينما ندخل ساحة المسجد الصغير المتعانق مع المعبد كأنما تتلاقي الحضارات المختلفة.
في ذلك الوقت الذي عاش فيه أبو الحجاج ضخّت بغداد بعلمائها الذين كان لهم أثر كبير في ازدهار الحياة الثقافية والدينية بها، وأيضًا وجود المدرسة النظامية التي تعتبر أول مدرسة مذهبية في تاريخ الإسلام، والتي التحق بها أبو الحجاج فزامل السهروردي-أحد المتصوفة المشهورين، وحضر حلقات الذكر والتصوف، وكان يتخذ لنفسه قدوة هي حشرة الجعران حيث يعتبرها حضرة مجتهدة لا تكل حتى تصل إلى مبتغاها.
وحينما تزوّد أبي الحجاج بالقدر الذي يكفيه من العلم ترك صناعة الغزل للتفرغ للوعظ لسنوات قليلة في بغداد، ثم خرج منها لتأدية فريضة الحج وعاد إليها مرة واحدة لتوديعها حيث كانت الحياة في عهد الخليفة الناصر لا تطاق بسبب انتشار الظلم، وأيضًا دفعه حزنه على وفاة والدته وزوجته التي عجّل رحيلهما بمغادرة أبدية للعراق.
في المسجد الذي ينتشر به السياح بكثافة كبيرة في معظم الأيام يجلس الخادم ليحكي حكاية شهيرة عن أبي الحجاج، ففور اتخاذه مُستقرًا له بالأقصر وجد ساحرة يرهبها الناس، فتحدى سحرها فخرّت واهبة نفسها للإسلام ويُقال إنها تزوجته ودفنت بالقرب منه.
رحلة طويلة خاضها أبي الحجاج في عامه الأربعين بأولاده حيث أمضى عام في مكة، ومنها إلى المدينة المنورة ليزور قبر الرسول – صلى الله عليه و سلم- ثم يكمل رحلته لمصر التي طاف بها، حتى استقر بالأقصر التي أحبها وتعلق بها وبمعابدها الشاهقة، وزاع صيته حتى وصل لسلطان مصر الذي أسند إليه مشارف الديوان، لكنه لم يُودّ الاستمرار في تلك الوظيفة ليتركها غير آسف عليها، ويتوجه لمدينة الإسكندرية حيث كبار العلماء والزُهّاد، ليقضي فترة هناك في تعلم الصوفية من الشيخ عبد الرازق الجزولي، حتى عاد إلى الأقصر ثانية، واتخذ له مقرًا بالقرب من معبد الأقصر يُلقي العلم ويعظ الناس، حتى توفي عن عمر تسعون عامًا، ودُفن بضريحه وهو المكان الذي تعود التعبد فيه بجوار المعبد، وتطور الضريح لمسجد صغير حتى ترميمه منذ سنوات و ضمه للآثار الإسلامية.
* المصادر: كتابات السهروردي
كتاب مساجد مصر وأوليائها الصالحون للدكتورة سعاد ماهر محمد
فيديو قد يعجبك: