لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

ما بعد فيضان النهر.. الهروب والبقاء في السودان

06:16 م الإثنين 21 سبتمبر 2020

رئيسية

قصة- مارينا ميلاد

صور- روجيه أنيس

"لمحبة مجهولة، منحت السماء البلد نهرًا من الجنة أسمته النيل، على جانبيه الخضرة. مر وقت طويل. تغير السكان. تغيرت حياتهم. والنيل ما تغير. فاض نهر الجنة كثيرا، فقتل. أجدب نهر الجنة كثيرا، فأهلك. وكما كان يعود في كل مرة. نهر وديع قادم من الجنة".(الروائي السوداني حمور زيادة: "الغرق.. حكايات القهر والونس")

يسري النيل، اليوم، بجوار الجزيرة غير متمهلٍ. يتناوب أهلها مع بعضهم لمراقبته بَحذرٍ شديد. ينهمكون في عمل تروس جديدة من أحجار ورمال لمواجهته. وقد ملأهم الرعب منه.

اعتاد أهل الجزيرة جارهم عنيفًا في هذا الوقت من العام، وأنه يحنو ويقسو عليهم أحيانًا. لكنهم لم يألفوا قسوته وغضبه لهذا الحد الذي يجعله يقتحم أرض جزيرتهم وتحاوط مياهه بيوتهم لتُسقطها بمرور الأيام وتُغرق أرضهم؛ لتصبح غير صالحة للزراعة.

هذا حال ساكني "جزيرة توتي" -الواقعة عند التقاء النيلين الأبيض والأزرق بوسط العاصمة السودانية- مع النهر الذي مثلما منحهم الحياة والخير والخضرة؛ منحهم الشقاء هذه الأيام بعد فيضانه في 29 أغسطس الماضي مخلفًا الضحايا والخسائر. لكنهم -ورغم ذلك- لا يمكنهم أن يفارقوه مهما فعل.

أما خالد، 17 عاما، وبدر الأصغر منه بعامين؛ فقد ابتعدا كثيرًا عن هذا النهر بعد ما فعله ببلدهما. هربا إلى مصر؛ ليجلسا -الآن- في غرفة ضيقة معدومة الإمكانيات لا يصلها الشمس بقدر أصوات الباعة والمتجولين في هذه المنطقة الشعبية الواقعة بمحافظة الجيزة.

لا يحملان أوراقًا تجعلهما يخرجان، ويعملان، ولا يملكان هواتف تمكنهما من معرفة ما جرى ببلدهما بعدما تركاها.

يأخذ مجتبي حامد مكانه في أحد الاجتماعات التي أصبحت معتادة لأهل الجزيرة كل يوم منذ بداية الفيضان. يُعرف نفسه أنه من سكانها الأصليين، وعائلته "الضوي" إحدى كبرى عائلاتها. ما يجعل ارتباطه بها –كما وصفه- "أزليًا".

لقد جاوز "مجتبي" منتصف الخمسينات. عايش فيضانات 1988 و1998 التي كان أهل الجزيرة يعتبرونها الأسوأ بعد فيضان 1946 قبل أن يروا فيضان هذا العام. مَلك الرجل من خلالها خبرة التعامل مع النهر المتقلب. لكنه وجده عصيًا هذه المرة أكثر مما تصور: "هذا الفيضان لا مثيل له. نحن نحارب في كل الأنحاء؛ لإنقاذ جزيرتنا".

يجلس مجتبي في الاجتماع والمياه الآتية من النهر تتسرب في التربة تحت قدميه. يعقد يديه أمامه ويبدأ نقاشه مع الحاضرين عن كيف سيحمون أنفسهم من خطر جارهم -الذي ربما يداهمهم مجددًا من أي ناحية-، هل سيظلون يبنون التروس طوال الوقت، وهل ستكون مُجدية فيما بعد؟!؛. ليخلصوا إلى أنهم بحاجة إلى بناء جدار كبير واقٍ حولهم.

يتدخل الموظف محمد محمود ذو الـ39عامًا، وهو أحد سكان الجزيرة، في الحديث ويذكرهم بالدراسات التي تم تقديمها قبل ذلك؛ لإقامة جدار، وتوفير وسائل لحماية الجزيرة، لكن ظلت مشكلة التمويل، وإمكانيات الحكومة عائقًا أمام تنفيذها.

صورة 1

بعد أن فرغ المجتمعون من طرح مقترحاتهم وأفكارهم للوقوف في وجه النهر. اتفق مجتبي ورفاقه على أن عليهم التحرك للعمل قدر استطاعتهم وإمكانياتهم حتى تتدخل الحكومة: "ما بعد الفيضان هو الأخطر. فبرك المياه تولد البعوض والذباب وتنقل الأمراض، وجدران المنازل تتشقق بمرور الوقت".

تفرقت المجموعة. جابوا الجزيرة طولاً وعرضًا -رغم ضيق مساحتها الجافة-. وبدأوا حملة الرش لمدة 10 أيام، وأعادوا تقسيم أنفسهم على "التايات". تلك الكلمة التي يقولونها على المناطق المرتفعة بنواحي الجزيرة -والتي يَفرض عليهم نظامهم القديم الموروث وجغرافيتهم أن يتوزعوا عليها رجالاً وشبابًا-؛ لتأمين التروس ومراقبة النهر وقت الفيضان.

صورة 2

يبعد خالد وبدر أكثر من 2200 كم عن هذه الأحاديث والأجواء. يستلقيان على الأرض داخل غرفتهما -التي وفرها لهما أحد المراكز السودانية بعد أن أرسلهما إليها مكتب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين-. يقضيان فيها كل وقتهما تقريبًا منذ جاء كلاهما إلى مصر قبل أسبوع. فهما يحبان الشارع لكن يخشيان عنصريته، ويرغبان في العمل والكسب لكنهما عاجزان دون أوراق المفوضية التي ستبحث أمرهما.

ولا شيء هنا يمكن أن يسليهما ويمرر عليهما الوقت الطويل سوى غنائهما وأحاديثهما معًا عما مرا به وما ينتظرانه.

لم يعرف خالد وبدر بعضهما من السودان. فالأول من منطقة بشمال الخرطوم، والثاني من "أم درمان" في غربها. إنما التقيا هنا في مصر -صدفةً- بعد أن خاضا رحلتين منفصلتين للهروب والنجاه بأنفسهما من الفيضان؛ رافضين قبول معاناة إضافية على حياتهما.

حددت بداية هذا الشهر علاقة مجتبي وساكني الجزيرة وخالد وبدر مع بلدهم ونهرهم عندما وصل منسوبه لرقم قياسي لم يسجله منذ قرن. فجاءهما هادرًا مدمرًا.

29 أغسطس..

وصل الخبر إلى مُجتبي عندما كان مجتمعًا مع جيرانه. سمع صياح وصراخ أناس خائفين على أنفسهم وبيوتهم ومواشيهم وأراضيهم. فجرى ومن معه في اتجاه المساجد التسعة الموجودة بالجزيرة محذرين الناس -في ميكروفوناتها-؛ لإخلاء بيوتهم والتحرك باتجاه المناطق العالية الآمنة: "في هذه اللحظة ما تذكرت إخوتي وزوجتي وأولادي. فكرت في العدو الموجود أمامنا كيف نقهره؟".

صار النهر في تلك اللحظة "عدوًا". لقد تسلل إليهم من الناحية الشرقية التي يسميها مُجتبي بـ"الناحية المايعة" أي الأخطر والأضعف بالجزيرة. وقف "رجال التايات" فيها دروعًا بشرية لسد ثغراتها حتى يلحق الباقون بتجهيز "أجولة الرمال" والأحجار لعمل تروس تصد المياه.

سكان جزيرة توتي السودانية يحاولون السيطرة على الفيضان from Marina on Vimeo.

بحسب قواعد الجزيرة؛ يرأس هذه التايات مزارعون؛ فهم الأكثر خبرة في شؤون النهر. وقد يعمل تحت إشرافهم أطباء، مهندسون، ومصرفيون. ومُجتبي -الذي عمل مصرفيًا طوال حياته- واحدٌ من هؤلاء الرجال: "أدي الخبز لخبازه. نحن نتعلم منهم ونورث ما تعلمناه لأولادنا".

ولأن هذه العملية معروفة بالجزيرة، فيحصل رجالها على إجازات اضطرارية من أعمالهم لمدة 20 يومًا خلال فترة الفيضان المستمرة ثلاثة أشهر منذ يونيو.

جرافيك 3

من نقطة عالية عند "التاية" نَظر أبوبكر توفيق (43 عاما) باتجاه أرضه متحسرًا. فمياه النهر محت الأعلاف والخضراوات التي زرعها في الفدادين الأربعة التي يملكها، ومعها أشجار الجوافة والمانجو.

يقول أبوبكر إنه كان داخل أرضه عندما اجتاحتها المياه وغمرتها، فتحرك ومعه مزارعون آخرون إلى "البوابير" التي تسقي أراضيهم؛ ليرفعوها ويُؤَمِنوها، ثم صعدوا على المناطق العالية والتايات؛ ليعملوا معًا على تأمين المناطق السكنية.

بعد أيام وعلى بعد كيلو مترات عديدة من الجزيرة، انتبه معاوية عثمان، خفير الحمام الملكي في منطقة مروي الأثرية لتسرب مياه النهر القريبة داخله، وهو ضمن المواقع الأثرية المدرجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، فتدخل الرجل العجوز بمفرده؛ لإنقاذه.

لقد ورث معاوية -وعمره الآن 60- هذه المهنة عن أبيه وجدوده منذ 37 سنة. سكنت عائلته وهو وبناته من بعدهم في المنطقة نفسها؛ فلم يعرف غيرها في حياته.

دخل إلى الحمام الملكي؛ ليضع التروس ويحاول صد المياه وفي الوقت نفسه اتصل بمسؤولي الآثار؛ لينجدوه: "كنت خائفًا. لكن لا يمكنني أتركها تغرق!".

وصل دكتور محمود سليمان، المسؤول عن موقع مروي منذ 2013، ومعه فنيون ومفتشون إلى معاوية: "استجبنا لنداء الخفير سريعًا وعملنا على شفط المياه التي أحدثت تأثيرًا جزئيًا عند أطراف الحمام وضررًا بسور المدينة القديمة".

جرافيك 4

لما كان ذلك يحدث، اقترب الفيضان من منطقتي "خالد" و"بدر". تصاعدت فكرة الهروب الكامنة في رأسيهما أكثر وأكثر مشفوعة بأن "لا شيء يستحق البقاء لأجله".

يتشابه خالد وبدر كثيرًا في حكايتهما. كلاهما فقد والديه. كلاهما لم يتجاوز المرحلة الابتدائية، وخرجا من مدارسهما مبكرًا؛ لأجل العمل بالمخابز والمزارع وأعمال البناء. وكلاهما وفر من طعامه؛ ليدخر مالا حتى يمكنه الهرب يومًا بعد أن أغراه أحاديث زملائه في العمل عن فرص العمل وفرق العملة إن هرب إلى مصر أو ليبيا.

"كان مخيفًا لي عندما دخل الفيضان في منطقة قريبة منا، وكسح بيوتها ومزارعها. تخيلي أن شخصًا يخرج من بيته فيغرق! وأناسًا يخرجون بالمراكب، ومعهم أطفال. فقلت إنه وقت المغادرة".. يحكي خالد الذي قضى أسبوعًا في الفيضان وذهب دون أن يحمل شيئًا عدا الـ15 ألف جنيه سوداني التي سيدفع منها 10 آلاف لصاحب السيارة.

اتفق خالد ظهرًا ثم تحرك في الـ10 مساءً في اليوم نفسه. وبمجرد أن استقل السيارة؛ وضعوا له ومن معه غمامة على أعينهم ووجوههم. لم يرفعوها إلا كل بضع ساعات عندما يعطونهم مياهًا.

ظلوا على هذا الحال حتى وصلوا أسوان ظهر اليوم الثاني دون أن يوقفهم أحد – بحسب خالد.

اتجه فور وصوله حيث موقف حافلات القاهرة؛ فأوصاه واحدٌ ممن كانوا معه أن يكون حذرًا، وألا يتحدث مع أحد، وساعده في تغيير ما تبقى من أمواله إلى 450 جنيهًا مصريًا دفع نصفها؛ ليسافر إلى القاهرة.

صورة 3

سبق بدر خالد بيومين تقريبًا بعد أن قضى خمسة أيام في الفيضان. ترك بيت زوجة أبيه التي كانت تسيء معاملته بعد وفاة والده، ولم يحمل معه إلا خمسة آلاف جنيه ادخرها ودفعها مقابل أن يكون واحدًا من 10 أفراد يذهبون في تلك الرحلة.

ضل بدر طريقه منذ وطأت قدماه القاهرة. ظل 3 أيام ينام في شوارعها ويأكل بقايا المطاعم. وحين التقاه رجلٌ سوداني ووصف له طريق مكتب المفوضية أخفق في الوصول إليه. استقر أسفل أحد الكباري -الذي وجده آمنا عن مناطق أخرى تعرض فيها لمضايقات- حتى جاء له خالد الذي كان وصل للتو ومشى بحسب الوصف باتجاه مكتب المفوضية.

تعرف خالد وبدر على بعضهما. ظلا يحكيان طوال الليل ليعرفا مدى تشابه حكاياتهما فقررا أن يكملا الطريق معًا. وفي اليوم التالي وصلا إلى مكتب المفوضية الذي أعطى لكل منهما 200 جنيه، وهاتفًا وتواصلا مع المركز السوداني ليست ضيفهما.

صورة 4

أعلنت الحكومة السودانية الطوارئ لثلاثة أشهر مقبلة واعتبرت البلد "منطقة كوارث طبيعية". فاقت الخسائر إمكانياتها؛ ففتحت بابها للمساعدات والمبادرات واتكأت على شجاعة أهلها التي ربما نمت بالنزاعات والاضطرابات والكوارث السابقة.

في مروي؛ يعمل الخفير معاوية عثمان ومحمود سليمان مدير الموقع وفريقه على تجفيف الحجر الرملي ومعالجة الضرر بأسرع وقت، والعمل فيما بعد على إقامة حاجز صلب. يتركون خلفهما بيوتا مهددة أيضًا لكن يفسر سليمان ذلك بـ"غيرتهم على أهم موقع أثري بالسودان".

أما الجزيرة فقد حققت نجاحًا في المواجهة وما زال أهلها يحاولون. لكن وإن نجحوا فقد عزز ما حدث الرعب والتوتر داخلهم من النهر ومن آثار فيضانه الباقية بعد عشرتهم الطويلة معًا. بل وصاروا يخشون حتى الهواء أن يُحرك التروس التي تحميهم.

يمر أبوبكر على أرضه فلم يجد شبرا قد جف بَعد. يعيش هو وأطفاله الآن على ما أسماه "الوَفرة" التي يدخرها المزارعون تحسبًا لموسم الفيضان كل عام. لكنه ينتظر أن يحن النهر ثانية ويعود لوداعته ويمكنه الزراعة والإنتاج مرة أخرى.

ومع كل ذلك؛ لم يفكر أحد بالجزيرة في استغلال الجسر الحديث الذي يربطهم بالخرطوم للخروج منها. يقول مُجتبي: "أجدادنا أوصونا على الجزيرة. لن نفرط فيها وإذا سنموت فنموت على أرضها".

لكن بمرور كل يوم يزيد الأمر ضبابية عند من خرجوا. فلم يجد خالد وبدر الوضع كما صوره لهما زملاؤهما. هنا أربعة جدران ولا خروج ولا عمل ولا حيلة لهما: "المفوضية قالت لنا سنساعدكما مرة واحدة ثم اعتمدا على أنفسكما". ينتظران الانفراجة؛ ليكررا تجربتهما مرة أخرى نحو أوروبا وتتلاشى مع ذلك فكرة العودة إلى جذورهما.

- "خالد وبدر" أسماء مستعارة حفاظًا على خصوصيتهما.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان