لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

هؤلاء وراء تعويم "إيفر جيفن"| حكايات عمال القناة عن "المهمة الأصعب"

03:53 م الثلاثاء 30 مارس 2021

الكراكة مشهور أثناء عملية التكريك

مارينا ميلاد

مثّلت السفينة التي جنحت بقناة السويس قبل أسبوع قصة غير معتادة حول حادثة قد تبدو عادية، لكن موقعها لم يجعلها عادية بالمرة.

لم نعتد معايشة قصص مماثلة، فقد كنا عالقين معها، وكذلك فريق هيئة القناة نفسه- رغم أنه يرى حوادث مشابهة كثيرة - لكن كان الأمر مختلفًا مع "إيفرجيفن" التي عاندتهم كثيرًا حتى طاوعتهم في النهاية، وأبحرت مجددًا.

صورة 1

البداية كانت الثلاثاء الماضي، عندما علقت سفينة حاويات بنمية عملاقة تسمى "إيفرجيفن" عند الكيلو 151 بقناة السويس في أثناء رحلتها القادمة من الصين والمتجهة إلى روتردام في هولندا.
وقتها لم ينتشر الخبر على نطاق واسع، لكنه وصل إلى مسامع كل من محمد عبده العامل على الكراكة "مشهور"، إحدى كراكات هيئة قناة السويس، وإبراهيم علي، وهو فني ميكانيكي في القاطرة "بركة 1"، وأحمد عزت، مسؤول ورش اللحام وبناء السفن بالهيئة. وجميعهم اعتبروه "أمرًا عاديًا ومعتادًا بالنسبة لهم" – حسب قولهم – خاصة مع سوء الأحوال الجوية المصحوب بعاصفة ترابية، وهو سبب جنوح السفينة الذي ذكرته هيئة القناة في بيانها فيما بعد.

صورة 2

لكنهم أدركوا حقيقة الأمر ومدى صعوبته في اليوم التالي؛ بعد أن سمحت القناة بعبور 13 سفينة من بورسعيد ضمن قافلة الشمال لتكمل مسيرتها في القناة وفقاً لتوقعاتهم بانتهاء إجراءات تعويم السفينة في وقت قريب، لكنهم وجدوا المسألة أكبر من توقعاتهم؛ حيث طال الوقت، وتوقفت حركة الملاحة، وتكدست السفن بمنطقة الانتظار بالبحيرات.

وبات تعويم السفينة التي بنيت عام 2018، وتديرها شركة "إيفرجرين مارين" التايوانية، "المهمة الأصعب" لدى العمال الثلاثة خلال سنوات عملهم في القناة.

جرافيك 1

لم يستوعب أحمد عزت الذي يعمل في القناة منذ 17 سنة فكرة أن تتوقف الملاحة. ذلك ليس لكونه موظفا يخشى حدوث مشكلة تؤثر على عمله بأي شكل، لكن لما يقول إنه "حبًا في القناة وتقديرًا لأهميتها، فقد زرع والده ذلك الحب فيه، وكبر مع الوقت".

فالرجل الذي ولد بالإسماعيلية قبل 35 عامًا كان والده أحد موظفي الهيئة منذ حرب عام 1967، تلك الفترة التي توقفت فيها الملاحة بالقناة لمدة 8 سنوات كاملة، واحْتُجزت داخلها أكثر من 14 سفينة تجارية طوال تلك السنوات، وتعثر الاقتصاد المصري بشدة.

أخذت هذه الأحداث بتفاصيلها مكانًا في الحكايات التي ذكرها له والده: "كان يؤكد دائما أن توقف الملاحة كارثة؛ خاصة إذا كانت السياحة تعاني أيضًا".
كان نتاج ذلك أن يلتحق أحمد بمركز تدريب هيئة قناة السويس ليدرس أربع سنوات ويتخصص في "اللحام وبناء السفن" ثم يتخرج، وينضم إلى إخوته الذي يعملون فنيين بالهيئة أيضًا، حتى يتولى بعد ذلك مسؤولية الورش المعنية بإصلاح وصيانة القاطرات، وهي صاحبة الدور الكبير في قصة السفينة.
استعد أحمد وطاقمه في ورشته لأي طارئ، بينما كان محمد عبده يقف في كراكته "مشهور" المسماة باسم المهندس مشهور أحمد مشهور، أحد رؤساء الهيئة السابقين، وهي الأضخم بين كراكات القناة، ليعمل على تكريك موقع آخر بالقناة.

اعتاد محمد (28 عامًا)، خريج كلية الحقوق، على ساعات عمل طويلة منذ التحاقه بالهيئة قبل 9 سنوات، وقلما ينقلب الأمر لأيام، مثلما حدث في هذه الحالة، عندما جاء له التكليف بالانتقال مع فريق الكراكة البالغ نحو 50 فردًا إلى موقع السفينة: "فوجئنا بحجمها الرهيب الذي لم نتخيله، وشحطها بصورة قوية، لكن أصررنا على أن نفعل كل ما في وسعنا".

جرافيك 2

يقول محمد إن دور الكراكة يأتي أولا؛ فهي تقوم بتعميق جانب السفينة بمنطقة الشحط لتسهيل عملية التعويم على القاطرات التي تتولى الأمر بعدها. وهنا جاء دور "القاطرة بركة 1"، وحضر "إبراهيم علي" إلى "ورديته" التي بدأت الأربعاء على هذه الواقعة، وتسلم ماكينات القاطرة؛ فهو المسؤول عن مراقبة دورانها وإصلاح أي عطل.

يرى إبراهيم أنه مهما بلغت صعوبة الأمر هذه المرة، فهو مؤهل لتلك المهام منذ تخرجه في مركز تدريب هيئة قناة السويس: "دائمًا كنا نتدرب على حدوث مثل هذه المشكلات وكيفية حلها". ومنذ بداية عمله بالقناة في عام 2013؛ واجه عشرات الوقائع، آخرها في الأسبوع السابق لحادث السفينة البنمية، حيث شحطت سفينة أخرى بالقناة ناحية بورسعيد واستمرت محاولات تعويمها أيامًا، لكن الفرق بينها وبين السفينة الموجه لها أنظار العالم – بحسب إبراهيم – "أنها لم تكن في نقطة تُعطل الملاحة".

بعدها ارتاح إبراهيم لأيام في بيته بالإسماعلية، ثم عاد على هذا الحادث الجديد في "ورديته" التي تمتد أربع أيام أسبوعيًا بعكس قاطرات أخرى تعمل وردياتها يومين فقط في الأسبوع، لكنها ليست "بركة 1"، القاطرة الأقوى في القناة: "وجدنا الجميع يعول علينا كثيرًا".

جرافيك 3 (1)

اليوم الثالث لجنوح السفينة

اعتذرت شركة "شوي كينسن" اليابانية المالكة للسفينة عن آثار الحادث على حركة السفن التي تنتظر المرور عبر القناة. وقالت إنها تبذل قصارى جهدها إلى جانب السلطات في مصر لحل المشكلة، "لكنها حذرت من أنها صعبة للغاية".

لم يلتفت العمال الثلاثة: "أحمد ومحمد وإبراهيم" إلى ما يُذكر في وسائل الإعلام أو البيانات الرسمية التي تتحدث عن صعوبة الأمر أو أنه يستلزم تقديم المساعدة لهم. صوبوا تركيزهم تجاه عملهم فقط. يقول إبراهيم: "كان هناك ناس تكتب أو تقول إننا نهول الموضوع، لكنه كان كبيرًا فعلا".
يوم الجمعة؛ عملت ٩ قاطرات في مقدمتها "بركة ١" بعد انتهاء أعمال التكريك بواسطة الكراكة "مشهور". لكن عوامل أخرى غير عملهم تتحكم في نجاح مهمتهم كالرياح والمد والجزر. "منذ اليوم الأول، ونحن على يقين أننا نستطيع تعويم السفينة، لكن المشكلة فيما هو خارج عن إرادتنا".. يقول محمد.

ورغم ذلك، بلغت نسبة إنجاز أعمال تكريك "مشهور" بنهاية اليوم نحو ٨٧%، بمعدلات تقترب من ١٧ ألف متر مكعب من الرمال على بعد ١٠٠ متر من السفينة. ما دفع الفريق أسامة ربيع، رئيس هيئة قناة السويس، لتقديم شرحًا لتلك الجهود أمام العالم في مؤتمر صحفي، السبت.
خلال هذه الأيام، لم يغادر أحمد عزت ورشته، تواصل مع أطقم القاطرات باستمرار، ليطلبوا منه إرسال أدوات أو خامات إلى موقع السفينة حتى حدث شيء أكبر في اليوم الخامس استدعى أن يذهب بنفسه مع الطاقم إليهم.

جرافيك 4

بالنسبة للعمال الثلاثة وربما للهيئة ككل، كان يوم الأحد عصيبًا وحاسمًا. طال الأمر أكثر من المتوقع، فشلت محاولات عدة، وكانت الخسائر اليومية للقناة تقدر ما بين 12 و14 مليون دولار وفقا لرئيس الهيئة.

في هذا اليوم، من المقرر الدفع بقاطرتين جديدتين "عبدالحميد يوسف" و "مصطفى محمود" بقوة شد ٧٠ طناً، لكل منهما للمشاركة مع "بركة 1" والباقين. كما وصلت القاطرة الهولندية APL GUARD ضمن فريق عمل شركة SMIT الهولندية.

واصل محمد عمله على الكراكة: "لم ننم بسبب حجم الشغل، لكننا اعتدنا هذه المتاعب. الأهم أن يأتي بنتيجة". وظلت أسرته وزوجته يتابعون معه الموقف أولا بأول: "كانوا بجانبي طوال الوقت".

انتظر إبراهيم في قاطرته "بركة 1" حتى تنتهي "مشهور " من عملها، ثم بدأوا، وكانت مهمتهم دفع مقدمة السفينة في اتجاه الشمال.
كان طاقم القاطرة البالغ 19 فردًا تقريبًا منهكًا تمامًا، وفقًا لإبراهيم، فلم يحصلوا إلا على قسط قليل من النوم داخل القاطرة، وبالكاد استغلوا وقت عمل الكراكة ليأكلوا.
ذهبت توقعات إبراهيم وغيره في أحاديثهم سويًا إلى أنهم سيضطرون لتفريغ حمولة السفينة بنهاية الأمر حتى يسهل تعويمها، وهو الخيار الأخير الذي عملوا جميعًا على تجنبه؛ فهي عملية مضنية تستغرق أياما، خاصة أن السفينة قد تحمل ما يصل إلى نحو 20 ألف حاوية.

في أثناء عمليات الشد المتواصلة من "بركة 1"، قُطع ما يسمى بـ"الواير الصلب" الذي يستخدمونه، وهو ما جعل أحمد يترك الورشة، ويأخذ فريقا مكونا من 6 أفراد إلى منطقة "الشلوفة" ومنها يستقل اللنش متجها إلى موقع "إيفر جيفن"؛ إذ قام بإصلاحه وإجراء صيانة للقاطرة "مساعد 2"؛ وقضى حوالي 18 ساعة عمل متواصل خلال ذلك اليوم، حسبما يَذكر.

وحملت لهم نهاية اليوم خبرًا سعيدًا. لقد عُدل مسار السفينة بشكل ملحوظ بنسبة 80% وابتعدت مؤخرتها عن حافة القناة بمسافة 102 متر، بدلا من 4 أمتار، حسبما أعلن رئيس الهيئة، على أن تستأنف المناورات مرة أخرى مع ارتفاع منسوب المياه إلى أقصى درجاته.

صورة 3

الاثنين - اليوم الأخير

في الثانية صباحًا أنهى إبراهيم عمله في القاطرة "بركة 1" وسلمها إلى الوردية التي تليه. يقول إنهم "أطول وردية بقت بجانب إيفر جيفن". لكنه لم يترك الأمر، بل ظل يتابع مع الموجودين الوضع لحظة بلحظة حتى الصباح.

بمنتصف يوم الاثنين، تأكدت أخبار نجاح تعويم السفينة التي كانت تسد مجرى القناة منذ نحو أسبوع. لم يصدق محمد وأفراد الكراكة ما يرونه: أخيرا خرجت السفينة من الشحط: "شعورنا لا يمكن وصفه.. هللنا وصفقنا وكان صوت القاطرات مثل الرعد من شدة الفرحة".

تمنى إبراهيم لو لم تنتهِ ورديته في القاطرة بركة قبل تلك اللحظة: "أكثر ما أسعدني أن من فعلها مصريون؛ فالقاطرة الهولندية لم تعمل سوى ساعتين فقط في النهاية".
ومن المفترض أن تعبر 118 سفينة الممر الملاحي اليوم، بحسب رئيس الهيئة. وهذا الخبر الذي ظل أحمد عزت ينتظره، وهو يجلس في ورشته مستعدًا وعندما ذهب ليُصلح الأعطال. كان هو الهدف الذي يدفعه للمضي قدمًا، ويحمسه للعمل كما علمه والده: "ليس هناك أهم من القناة بالنسبة لنا.. ويجب أن تسير الأمور فيها على ما يرام".

22

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان