المساء الأخير.. الصحف المسائية المصرية في ذمة الله
كتابة وتصوير- عبدالله عويس:
كمن ينعي فقيدا، أو يواسي أهالي الراحلين، يخبر «هاني محمد» زبائنه -على قلتهم- أن الصحف المسائية لن تكون متاحة على فرشته في الغد. وحين تمتد يد أحدهم لجريدة أخرى يخبره بأن يحتفظ لنفسه بتذكار من رائحة الماضي قيمته ثلاثة جنيهات، لصحف كانت تسمى المساء، أو الأهرام المسائي والأخبار المسائي، صارت تجسد واقعا لوسيط متعثر: «كنت أعرف أن يوما كهذا سيأتي، وستصير بعض الصحف ضربا من الماضي، لكنني حزين على أي حال».
أمام أكوام الجرائد، المتناقصة يوما فيوما، وقف «عادل زكي» يتأمل المانشيتات في عادة لم يتخل عنها منذ شبابه، ثم أخذ نسخته من جريدة المساء، أقدم جريدة مسائية في مصر، والتي تتساوى في عمرها مع عمره: «لدي 65 عاما، حرصت في 30 منها على مطالعة المساء، ولا أعرف ما الذي سأشتريه في الغد». العلاقة الطويلة بين الرجل وجريدته المفضلة، دفعته إلى تساؤلات عديدة، على رأسها: لماذا توقفت تلك الصحف، وهل تنذر بتوقف غيرها في السنوات المقبلة، وكيف سيتعامل مع الصحافة الرقمية في القريب؟ لكنه طوى الصحيفة ومعها تساؤلاته تاركا للغد تحديد ذلك المصير.
على طاولة خشبية، اعتاد هاني رصّ الصحف فوقها كل صباح، اختار الشاب الذي له في ذلك العمل سنوات طويلة، وضع الصحف المسائية في ركن مميز لوحدها، تاركا مسافة بينها وبين الصحف الأخرى، وكان هدفه من وراء ذلك أن يلمح زبائنه ذلك التغيير، وأن تقع عيونهم على ما دونته الصحف الثلاث على الصفحات الأولى. اختارت المساء أن تدون على شريط باللون الأسود «انتظروا المساء الإلكتروني من الغد»، فيما كتب رئيس تحرير الأهرام المسائي، مقالا في الصفحة الأولى بعنوان «ورقية أو إلكترونية.. الأهرام المسائي علامة في تاريخ الصحافة المصرية» بينما كتبت الأخبار المسائي «غدا العدد الأخير.. الأخبار المسائي صفحات من جريدة لها تاريخ». وفي حين أن المساء والأهرام المسائي التزمتا بقرار الهيئة الوطنية للصحافة، بتحويل الإصدارات الورقية المسائية إلى إلكترونية، بداية من الـ15 من يوليو الجاري، والذي يوافق الغد، إلا أن الأخبار المسائي قررت أن تصدر في الغد عدد الوداع.
لا يعبأ هاني، بائع الصحف بشبرا الخيمة كثيرا بالقرار، تخطى تأثيره على مدار أيام منذ صدوره وحتى تنفيذه، في رأيه أن ذلك كله تحصيل حاصل. فرشته التي كانت تضم حلقات من الزبائن في الصباح، ممن ينتظرون مادة دسمة للقراءة، قلت أعدادهم، وتقلصت معها أعداد النسخ نفسها، لتتحول فرشته التي كانت مخصصة للجرائد والمجلات والمطبوعات فحسب، إلى بيع الأدوات المدرسية والألعاب وبعض مستلزمات المنازل: «لم تعد الجرائد تقدم جديدا، أنا لست متخصصا في أمور الصحافة، لكنني على الأقل قارئ، ولا أرى محتوى يختلف عن ذلك المنشور على الإنترنت، بل إنه محتوى متأخر مضت عليه ساعات» يحكي الشاب.
بيد مرتعشة بفعل الزمن، وبأنامل خشنة اعتادت رفع أول نسخة عن كومة الجرائد، وسحب النسخة التي تحتها، التقط «مصطفى علي» نسخة من جريدة المساء، ثم نسخة من الأهرام المسائية، وهو يسترق السمع إلى حديث هاني، ليقرر الرجل مقاطعته: «لي سنوات طويلة في قراءة الصحف، يوميا أقرأ نحو 4 صحف بعد خروجي على سن المعاش، والأزمة في رأيي ليست في عامل السرعة فحسب، وإنما في طبيعة الموضوعات المنشورة». حزن الرجل كثيرا لذلك القرار، له 70 عاما، لم يتعرف خلالها على أي محتوى إلكتروني، أو حتى يمتلك هاتفا محمولا حديثا، لكنه وبابتسامة على وجهه يحدث هاني: «هذا فعل الزمن، هذه الجرائد ستختفي اليوم كما سنختفي نحن في الغد، ولكل جيل طبيعته وأدواته، وما لم يكن هناك من تطوير فإنها ستختفي بوتيرة أسرع».
على بعد دقائق، وأمام فرشة لبائع جرائد آخر، كانت الصحف على طاولة، وتضم إصدارين مسائيين فقط، هما جريدة المساء الصادرة عن مؤسسة دار التحرير للطباعة والنشر، والأهرام المسائي، الصادرة عن مؤسسة الأهرام، فيما لم يكن هناك وجود للأخبار المسائي، الصادرة عن مؤسسة الأخبار، فالبائع من تلقاء نفسه قرر عدم استلام تلك الصحيفة من الموزع منذ فترة طويلة: «لا تباع تلك الصحيفة عندي بشكل كبير، وبالتالي فلا قيمة من وضعها هنا، لكنني حزين على غياب المساء والأهرام المسائي في الغد، وحزني على المساء أكبر» قالها «محمد عبد السلام» الذي له 30 عاما في بيع الصحف، ويعد صحيفة المساء الاكثر مبيعا على فرشته التي تقع بميدان رئيسي بمحافظة القليوبية.
«صدقني حين أقول لك إنني لا أقرأ في كثير من الأحيان سواها، وهي الأكثر مبيعا، انظر إلى عدد النسخ التي لدي منها، لن تجد له مثيلا في الصحف الأخرى» يحكي الرجل وهو يمسك بنسخة من المساء، كان يطالع الأخبار الرياضية من خلالها، والتي كانت عناوينها على مدار سنوات مميزة وأقرب للطابع الشعبي: «ميزة المساء أن موادها بسيطة، لا تمل قراءة الموضوعات، وللصفحات الرياضية فيها جمهور كبير، كما أنها تعد مادة لتسلية الموظفين في أعمالهم» يحكي الرجل الذي أخرج هاتفه المحمول، ليسأل عن مواقع رياضية متخصصة تلائم مزاجه وتشغل وقته أثناء فترات اختفاء الزبائن وقت العمل: «علينا أن نواكب التطوير، وإن أتينا متأخرين، أنا من جيل قديم، مر على وجودي في هذا العالم 63 عاما» قالها وعلى وجهه ابتسامة، قبل أن يتحدث مع زبون آخر حول توقف النسخ المطبوعة من الجرائد المسائية.
لم تستطع «لبيبة شاهين» مساعد رئيس تحرير جريدة المساء، ورئيس قسم الاقتصاد، أن تذهب إلى مقر عملها في آخر أيام تجهيز آخر نسخة ورقية. كان الأمر صعبا عليها: «قرار توقف النسخة الورقية عن الصدور غير مدروس، وصدر دون إبداء أية أسباب» تحكي لبيبة والتي لها 38 عاما في الجريدة، منذ تخرجها، وتعتبر أن الجريدة التي تعمل بها تهتم بشأن القارئ: «هذه الجريدة أخرجت كتابا وشعراء ومثقفين، وهي قريبة من المواطن المصري، وبالطبع مرت بأزمات شأنها شأن كل الصحف، لكنها كانت متماسكة وتوزع بشكل مقبول». تقول الصحافية بالمساء إنها لا تتصور اختفاء الجريدة الورقية عن أيدي القراء والصحافيين، وتتسائل حول طبيعة الموقع الذي من المفترض أن يكون بديلا عن الصحف المطبوعة، والتجهيز له في أيام قليلة فحسب منذ إعلان الهيئة الوطنية للصحافة عن قرارها: «كيف ننشئ موقعا وندرب الناس على العمل فيه في ظل أيام قليلة، هذا غير منطقي».
كان الوضع مختلفا بالنسبة إلى «أحمد الضبع»، صحفي الرياضة في جريدة الأهرام المسائي، والذي سبق له العمل في قسمي الحوادث والفن. تقبل الشاب مسألة التغيير تلك: «تعلمت الصحافة على الورق، ولدي حنين دائم للنسخ المطبوعة، ولنا قراء وجمهور، لكن الأجيال الجديدة لا تعرف الجرائد الورقية» يحكي الصحفي الشاب، والذي له نحو 14 عاما في الجريدة. وهو وإن تقبل مسألة التغيير تلك من الورقي للإلكتروني فإن لديه ملاحظات بشأن التدريب على المواقع الإلكترونية والعمل عليها: «تلقيت تدريبا بالأمس واليوم فحسب، لكن مسألة التغيير كانت حتمية، وهي أمر واقع».
ما بين أول عدد وآخر عدد، قرر «عبدالنبي النديم» الاحتفاظ بالنسختين من جريدة الأخبار المسائية. يتذكر مدير التحرير حين استقبل أول نسخة من تلك الجريدة حين كان اسمها المسائية قبل أن تدمج مع الأخبار، وتصير باسم الأخبار المسائية: «نقوم اليوم بتجهيز عدد يضم إنجازات الجريدة، والملفات التي طرحتها، والجوائز التي حصل عليها الزملاء، وسننشره في الغد» يحكي عبد النبي، والذي رأى في ذلك التحول تطور طبيعي: «نتابع ذلك التحول منذ 15 سنة، وتطوره خلال الـ10 سنوات الأخيرة، وتدربنا على مدر أيام على التعامل مع المحتوى الرقمي»، لكن الرجل ومن معه أصيبوا بإحباط، حين ألغي طباعة عدد الصحيفة الذي يضم إنجازاتها، ليكون عدد اليوم، الأربعاء، هو الأخير.
تواجه الصحف الورقية بصفة عامة تحديات جمة، الخبر يأتي متأخرا، البيانات سبق للبعض أن طالعوها على مواقع التواصل، اللحظات الحية للأحداث تتسابق المواقع الصحفية إلى نشرها، إضافة إلى مشكلات أخرى تتعلق بتكلفة الطباعة والأوراق والأحبار وتشغيل الماكينات. يقول ياسر عبدالعزيز، الكاتب والخبير بالشأن الإعلامي إن «مستقبل الإصدارات الورقية يتناقض مع آليات التلقي السائدة والمتوقعة مستقبلا، شريط الفيديو لم يكن سيئا وقت ظهوره، لكن آليات التلقي تغيرت ولم يعد له مكان (...) الذين لن يستطيعوا مجاراة التغيير سيخرجون من الصناعة». ويعتقد الخبير الإعلامي أن الدولة المصرية تعرف تراجع تأثير ونطاق توزيع الصحف الورقية، وأن «لديها خطة لتقليص تلك المطبوعات، فكل ما يوزع في مصر حاليا من الصحف لا يصل إلى 400 ألف نسخة، بعكس بعض الأيام حين كانت توزع صحيفة واحدة نحو مليون نسخة (...) ووجود الصحف سيكون عبر عدد محدود ورمزي».
وإذا كانت بعض الصحف الورقية تبدو كعجوز يحاول اللحاق بشاب مسرع متمثل في الصحافة الرقمية، فإن الأخيرة أيضا تواجه تحديات، فحجم التطوير كبير، ووسائل التواصل الاجتماعي تبدو كغول قد يلتهم الجميع. في هذا العالم يصبح بإمكان مواطن عادي، صادف أن يكون في وسط حادث ما، أن يجذب أنظار الجميع، وتتبعه المواقع والصحف على حد سواء، بما يملكه من بث مباشر، أو بمجرد نشره صورا أو مقاطع فيديو من قلب الحدث. لكنه وإذ تحقق له عامل السرعة فإن المعالجة الإعلامية ستكون على عاتق المؤسسة الإعلامية. وفي هذا يقول ياسر عبدالعزيز إن «ما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي، ليست منظمات إنتاج محتوى، وإنما شاشات عرض، وكانت المشكلة بينها وبين المؤسسات الإعلامية أن هذه المواقع تعرض محتوى المؤسسات وتحصل على فوائد مالية، وتحرم منتج المحتوى من العائد» على أن ذلك تغير، وبدأت تلك المواقع في الدفع مقابل ما تعرضه، ووُقعت غرامات موجعة عليها لاستخدامها المحتوى الذي تنتجه المؤسسات الإعلامية.
على أن المنافسة بين مواقع التواصل الاجتماعي والمؤسسات الإعلامية الرقمية، قد تقع إذا طورت الأولى خدمات إنتاج المحتوى: «في هذه الحالة ستكون المواقع الصحفية في موقف صعب وحساس، فآليات التعرض والتلقي ستمنح وسائل ما يسمى بمواقع التواصل الاجتماعي المساحة الأكبر في ترويج منتجها» قالها الخبير في الشأن الإعلامي، والذي يرى أن تلك المواقع ستتحول إذا كثفت وسائل إنتاج المحتوى لديها إلى عملاق مخيف، وقد تعيد رسم عالم المحتوى الإعلامي. وستشتد المنافسة برأي ياسر إذا «اشترت ما يسمى بمواقع التواصل الاجتماعي أو أدمجت مؤسسات ذات طبيعة إخبارية في خدماتها (...) وبهذا الشكل فإنها ستخضع لشروط الإنتاج الإعلامي مثل بقية الوسائط، وشروط عرض المنتجات الإعلامية بالشكل الذي لا يضر المؤسسات التي تقدم المحتوى الإعلامي».
هذا الصراع المحتمل بين المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي، لا يعرف «محمد أحمد»، الذي يعمل في أحد بنوك القاهرة، عنه شيئا، كل ما كان يشغله في هذا الصباح، أي جريدة سيختارها في الغد لتكون رفيقته على مدار يومه وأثناء عمله: «رغم أني متابع جيد لما ينشر على المواقع الإخبارية، وهي مصدري الأول في الحصول على الأخبار، إلا أن للجريدة الورقية طابعا مميزا، أو ربما هي عادة أشعر معها بالتسلية ليس أكثر» يحكي الرجل، فيما كان إلى جواره وهو يقف أمام فرشة لبيع الصحف، شاب آخر يبحث عن فكة لـ200 جنيه مع البائع، قبل أن يتدخل في الحوار قائلا إن بإمكانه مطالعة الخبر وكافة التفاصيل المتعلقة به، قبل ساعات من طباعة الجريدة، من خلال المحتوى الرقمي، فضلا عن مشاهدة مقاطع فيديو لن تكون متاحة بأي حال في الصحف.
ما بين الاعتقاد بأن ما حدث مع الصحف المسائية نتائج لمقدمات، أو مقدمات لسلسة من التغيرات، ثمة قارئ يبحث عن صحافة جيدة، وحيثما كانت فهي قبلته، أيا كان الوسيط. وإن كانت الصحف المسائية قد توقفت عن الصدور بشكل ورقي، فإن الخوف يمتد إلى صحف صباحية، قد تكون هي الأخرى مهددة بذلك المصير. في الصفحة الأخيرة من جريدة المساء، الأقدم في الظهور بين الصحف المسائية، إعلان لمراتب خصصت للنوم «high sleep»، لم يخل الأمر من رمزية، هو نوم عميق إذا، للصحف المسائية.
فيديو قد يعجبك: