ما وراء استعادة وزارة الثقافة لأعمالها: رحلة ضياع اللوحات الفنية في مصر
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
-
عرض 9 صورة
مارينا ميلاد:
إنفوجرافيك – مايكل عادل
ثلاث لوحات فنية نادرة لأسماء مهمة في عالم الفن التشكيلي.. قد تدعو مثيلاتها إلى التأمل أو تكون مصدر للإلهام، لكن هذه المرة هى مصدر للألغاز والتساؤلات!.. فقد اختفت لقرابة خمسين عاما ثم عادت إلى وزارة الثقافة على يد مقاول هَد من مقهى، قبله كانت ملقاة لسنوات في مخزن أُهيل عليها التراب داخله.
لم يكد أي شخص يبحث عن مسار هذه اللوحات إلا ويقفز أمامه فيض من المعلومات بأنها ليست الوحيدة الضائعة!.. وكما أن اللوحات الفنية تحمل عادة تفاصيل غريبة أو خفية يصعب ملاحظتها للوهلة الأولى، فكانت القصة وراء تلك الأعمال المُعادة تحمل أيضًا تفاصيل غريبة ومتداخلة.. نحاول فقط أن نفندها ونفك تشابكها في محاولة لفهم ما الذي حَدث في الماضي لنفقدها؟
أول الخيط كان بين سطور بيانات وزارة الثقافة. عندما استعادت من أحد الأشخاص لوحة "من وحي فنارات البحر الأحمر" للفنان عبد الهادي الجزار، وذكرت "أنها لم يستدل عليها منذ صدور إذن صرف عام 1971 لمبنى وزارة الثقافة بجاردن سيتى".
وبعدها بخمس أيام، سَلم الشخص نفسه لوحتين أخريين إحداهما للفنان صلاح طاهر بعنوان "الريف" والأخرى "دائرة وجذع" للفنان صالح رضا. ووقتها قالت الوزارة إن "اللوحتين كانتا من مقتنيات متحف الفن المصرى الحديث وتمت إعارتهما خلال سبعينيات القرن الماضى".
فما هو "إذن الصرف" أو "الإعارة" الذي فُقدت بعده اللوحات؟
بداية القصة عام 1946.. كان الفنان التشكيلي محمد ناجي يدير أقدم متحف فني في مصر وهو متحف الفن الحديث، وإذ به يمضي بالموافقة على ما يسمى بـ"أذن صرف أو نقل" يحمل بيانات لوحات ورقم تسجيلها لتنتقل من المتحف إلى مؤسسة أخرى، وتصبح في عهدتها.
وفقًا لأرشيف الأذونات بالمتحف؛ هذا كان أول أذن صرف موثق، ثم تلاه الكثير من الأذونات لـ25 جهة مصرية مختلفة في الداخل والخارج؛ تحصل بموجبها على لوحة فنية أو أكثر.
مرت سنوات طويلة؛ تغير فيها اسم وزارة المعارف إلى وزارة الثقافة والإرشاد القومي ثم وزارة الثقافة فقط. وتناوب على إدارة المتحف أسماء فنية كبيرة: راغب عياد، صلاح طاهر، سعد الخادم، لكنه ظل يعمل وفقًا لنظام أذونات الصرف، الذي لا يُلزم بمتابعة مصير اللوحات أو يحدد مدة لنقلها أو عقوبة عند تلفها أو ضياعها.
في تلك السنوات؛ رسم الفنان عبد الهادي الجزار - وعمره 39 عامًا - لوحتين "من وحي فنارات البحر الأحمر" و"إنسان السد" في إشارة إلى مشروع السد العالي والتي كرمه عليها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. كما رسم الفنان صلاح طاهر لوحته "الريف" بخامات الزيت على الخشب ومقاسها 100 في 80 سم.
كلاهما استلهما ما رسماه من مشاهد عايشاها؛ فالأول نشأ في حي القباري بالإسكندرية، وقد ألفت عيناه البحر؛ فاستوحى منه أعمالًا كثيرة. أما الثاني فقام بالتدريس فى المدارس الثانوية بالمنيا وتوحد مع الريف ومناظره.
اقتنى متحف الفن المصري الحديث اللوحات الثلاثة من أصحابها، وكان المقابل في تلك الفترة ما بين 28 حتى 100 جنيه على الأكثر – بحسب الأذونات الموجودة بين يدي إيمان نبيل، المديرة الحالية للمتحف.. ثم وقع القرار الذي غير مسارهم.
فنقل المتحف عُهدة لوحة إنسان السد التي تحمل رقم سجل (5972) إلى الاتحاد الاشتراكي عام 1967 ضمن عشرة أعمال فنية مهداة بناء على توصية وزير الثقافة آنذاك (سليمان حزين).
كذلك لوحة "فنارات البحر الأحمر" إلى مكتب وزارة الثقافة بجاردن سيتي عام 1971، وكان يتولاها بدر الدين أبو غازي، تلاهما لوحات "الريف" و"دائرة وجذع" لجهات أخرى لازال يرفض المسؤولون الإفصاح عنها حتى اللحظة.
بينما ذهبت لوحة "الراهبة" للفنان أحمد صبري، والتي نال عليها ميدالية الشرف من صالون باريس عام 1929، إلى مقر السفارة المصرية بواشنطن، وسبقها إلى المكان نفسه لوحة "ذات العيون الخضراء" للفنان محمود سعيد.
لا حديث عن تلك اللوحات فيما بعد، وبمرور الزمن اختفت تمامًا مع تغيير أسماء الجهات المُعار إليها وإلغاء أخرى وهدم بعضها أو وفاة مسؤولي العٌهد.
لـثلاثين عاما عملت سلوى حمدى بقطاع الفنون التشكيلية والمتاحف. تولت لوقت إدارة متحف الفن المصري الحديث ثم وصلت الآن إلى منصب مدير عام المتاحف الفنية، الذي يُقدر عددها بـ14 متحفا.. لذا تقول من خلال تجربتها إن "نظام أذونات الصرف القديم أدى إلى فقدانا عشرات اللوحات الفنية القيمة".. إلا أن كل شئ تبدل تمامًا بعد عام 1993.
فكرة اقتناء متحف الفن المصري الحديث أو غيره للأعمال تشرحها "سلوى" بأن للقطاع ما يسمى بـ"ميزانية اقتناء"؛ فيشكل لجنة تنتقي أفضل الأعمال الفنية التشكيلية كل عام من المعارض أو يعرضها الفنانين أنفسهم وتشتريها.. وقتها تصبح ملكًا للقطاع يعرضها في المتاحف أو يعيرها لمؤسسات الدولة.
فمسألة إعارتها للمؤسسات والهيئات؛ هدفها كما توضحه "سلوى": "تجميل مؤسسات الدولة المختلفة ونشر الوعي الفني"، وضربت مثالا حاليا بنقل العديد من الأعمال لمتحف الفنون الجديد بالعاصمة الإدارية.
وفي هذ الأمر توضح إيمان نبيل، مدير متحف الفن المصري الحديث: لم نعد نُخرج أعمال الرواد (الفنانين الكِبار) للإعارة بهيئات منذ 8 سنوات، إنما الأعمال الحديثة وأعمال الشباب فقط.
لكن تلك العملية في مجملها باتت أكثر تنظيمًا بعد قرار أصدره وزير الثقافة الأسبق، فاروق حسني، عام 1993.. فهذا القرار منع إعارة أي لوحة إلا بقرارات وزارية.. كما ألزم تسجيل بيانات وصور اللوحة، وتحديد مدة الإعارة بسنة قابلة للتجديد، تذهب خلالها لجان لمتابعة حالة اللوحات والتأكد من عدم وجود تلف بها أو أنها بحاجة إلى الترميم.
وإذا اكتشفت اللجان مخالفة للمكان المسجل وجود اللوحة به أو أنه غير مؤمن أو أنها بحالة سيئة؛ فيحق لهم استعادتها وإلغاء الإعارة.. وإن فٌقدت أحداها يتم إبلاغ النيابة وإتخاذ الإجراءات القانونية – وفقا لـ"سلوي حمدي".
المخالفة الأخيرة جرت لاحقًا في مستشفى العجوزة، التي يوضح الفنان التشكيلي عز الدين نجيب، خلاله تصريحات سابقة له، أن 21 لوحة لكبار الفنانين اختفت منها بعد إعارتها من متحف الفن الحديث.. الواقعة أكدتها "سلوى"، وأشارت إلى أن النيابة ألزمتهم ومؤسسة أخرى بدفع تعويض كبير للقطاع.
هذا التنظيم دفع "سلوى" للبحث عن اللوحات التي أُعيرت في الستينات والسبعينات، لكن لوحات "من وحي فنارات البحر الأحمر، الريف، دائرة وجذع، الراهبة، وذات العيون الخضراء" وغيرها صنفت جميعًا بأنها "لم يستدل عليها".
وفي 2007، تفاجأت وزارة الثقافة ببيع لوحة "ذات العيون الخضراء" في صالة مزادات بدبي بمبلغ يترواح بين 50 الي 70 ألف دولار.. فتحركت سريعًا لإيقاف البيع وأبلغت الانتربول بأن اللوحة ملك لقطاع الفنون التشكيلية وأنها كانت معارة للسفارة المصرية في واشنطن.
لم تكن تعرف الوزارة حينها أن الفنان محمود سعيد صنع نسخة مماثلة لـ"ذات العيون الخضراء"، وهي ملك "تشارلز تيراس"، أحد الذين ساهموا في تأسيس متحف الفن الحديث.
لذا لم تكن هي لوحتهم المقصودة، وتمكن ورثة "تيراس" من عرضها مجددًا بعد عشر سنوات وبيعها فى مزاد "كريستيز" بمبلغ قيمته 175 ألف جنيه إسترلينى.
تصف سلوى حمدي كل ذلك بأنه "رحلة بحث شاقة"، خاضتها منذ أدارت متحف الفن المصري الحديث عام 2009 وحتى الآن.. أساس تلك الرحلة هو إعداد حصر بـ"أذونات" الصرف القديمة الموجودة لدى المتحف، ومخاطبة الجهات التي لازالت قائمة مثل وزارة الخارجية، للإفادة باللوحات الموجودة لديها.
تقول إن "كل ذلك اجتهاد منها وفريقها لإضافة أعمال ذات قيمة للمتاحف، لكن من ناحية المسؤولية القانونية فليس هناك أي مسؤولية".
جرت مياة في النهر خلال السنوات الأخيرة.. وبفعل تلك المخاطبات تم تحديد مكان لوحتي "الراهبة" و"ذات العيون الخضراء".. وفقا لإيمان نبيل، مدير المتحف، حيث ذكرت أن المسجل بأوراقهم أن لوحة الراهبة في منزل مندوب مصر بالأمم المتحدة، ولوحة ذات العيون الخضراء (النسخة الأولى) في مقر مفوضية مصر بالأمم المتحدة.
أما لوحة "إنسان السد" التي أعيرت إلى الاتحاد الاشتراكي (مبنى الحزب الوطني)؛ فبحث أحمد عبدالغنى، رئيس قطاع الفنون التشكيلية (2014 - 2015)، عنها وشَكل لجنة للتنقيب عن أوراقها القديمة. لكنه لم يستطع الوصول إليها.. يقول إنه لم يتحرك قانونيًا بعد أن احترق المبنى بالكامل في أحداث ثورة يناير 2011، فالأشياء والأشخاص لم يعدوا موجودين.
سنوات أخرى تمر دون جديد مُعلن حتى يظهر قبل أيام شخص يدعى "هشام الهواري" ويسلم ثلاثة لوحات مختفية إلى وزارة الثقافة (من وحي فنارات البحر الأحمر، دائرة وجذع، الريف).. يذكر الرجل في روايته لما حدث أن والده كان يعمل مقاول هَد لفيلات وعمارات ومؤسسات حكومية وخاصة ووجد هذه اللوحات منذ نحو عشرين عام ووضعها في مخزنهم بمنطقة شبرا الخيمة دون أن يعرف أصلها أو قيمتها.
كان عمر هشام وقتها 13 سنة تقريبًا، فلا يتذكرها ولم يذكر له والده، الذي توفى قبل عام، المكان الذي هده ووجدها به.. لكن "هشام" يرجح بشكل كبير أن الثلاث لوحات عٌثر عليها في مكان واحد، وهو ما تبين له من طريقة وضعها بالمخزن.
ترجيح "هشام" لا يتوافق مع حديث المسؤولين أن اللوحات لم يتم إعارتها لجهة واحدة.
وبين السبعينيات والآن.. لا يعرف أحد على وجه الدقة ما حدث لها.. لذا نحن أمام عدة سيناريوهات لعل أوضحها: هدم والد "هشام" مكتب وزارة الثقافة بجاردن سيتي وأماكن جهات أخرى وعثوره على اللوحات متفرقة، أو أن جميعها نقلت إلى مكان واحد، وهو ما هدمه هذا الرجل فوجدها معًا.
"هشام" الحاصل على بكالوريوس إدارة أعمال ويعمل في الوقت نفسه مقاول هَد مثل والده منذ عام 2010 يصادف الكثير من المقتنيات عند هدمه أي مبنى وقلما يتوقف أمامها. لكن عند فتحه لمقهاه الجديد منذ 8 أشهر توقف أمام هذه اللوحة "فنارات البحر الأحمر" الملقاه بالمخزن وعَلقها في الواجهة.
يقول إن كل من يمر أمامها من زبائنه كان ينظر لها للحظات وتثير إعجابه؛ إلا شخص واحد من رواد المقهى لم يكتف بالإعجاب فقط.
فرغم أن هذا الرجل ليس خبيرًا – حسب قول "هشام" – إلا أنه اهتم بها والتقط صورًا لها وبحث عنها ثم جاء إليه مجددًا برفقة تاجر أنتيكات يعرض عليه الثاني شراءها بمبلغ ما بين مليون ونصف إلى اثنين مليون جنيه.. في هذا الوقت وصلت معلومة ببيع هذه اللوحة في السوق إلى قطاع الفنون التشكيلية، فأصدر تحذيريا بعدم التعامل عليها.
عَرف "هشام" حقيقتها وأصلها؛ فقرر تسليمها: "لن أضيع ما بناه والدي من سمعة وتاريخ".. فكانت خطوته الأولى عمل محضرًا بقسم الوايلي قبل تسليمها وغيرها للوزارة ليثبت أنها لا تخصه – حسبما أشار عليه محاميه.
شعرت "فيروز"، ابنة عبد الهادي الجزار، حين رأت لوحته للمرة الأولى بأنها "ابن ضائع عاد الآن"، فيما عاد "أيمن"، نجل صلاح طاهر، بذاكرته إلى الستينات ليتذكر مشهد رسم والده للوحة "الريف"، لكن ما أسعده أكثر من اللوحة – حسب قوله - هو "أن هناك أشخاص لازال لديها وعي".
كانت بيانات تلك اللوحة (الريف) مطموسة – بحسب سلوى حمدي، مدير عام المتاحف الفنية، وهو ما استدعى بعد تأكدهم أنها أصلية، مطابقة مواصفتها لما هو مسجل في أذون صرفها القديم بالمتحف.. قامت إيمان نبيل، مدير المتحف، بهذه المهمة ثم رفعت اللوحات الثلاث من تصنيف "غير مستدل عليه" وجاري البحث عنه.
وهذه الأيام؛ يجري ترميمها تمهيدًا لعودتها من جديد إلى مكانها الأصلي بمتحف الفن الحديث.
بينما يحدث ذلك، لازالت لوحات كثيرة تغيب عن مكانها بالمتحف.. لا تملك مديرته حصر بإجمالي عددها.. لكن أبرزها لوحة "إنسان السد" لعبد الهادي الجزار أيضًا، التي ترفض "فيروز" ابنته التصديق بأنها احترقت وقت أحداث يناير 2011.. فتقول في تصريحاتها الأخيرة: "ليس هناك معلومات مؤكدة عنها، لكن مسؤول كبير قال إنه وجدها في قاعة كبار الزوار بالمطار، وأرسلنا ليبحثوا عنها".
يأتي لـ"أيمن"، نجل صلاح طاهر الملقب بـ"شاعر اللمسة"، الكثير من المعلومات أيضًا حول لوحات والده التي لم يستدل عليها. فقد تجاوز عدد ما رسمه الألف لوحة؛ بعضها وصل إلى البيت الأبيض ومؤسسات قطرية – حسب الشهادات التي وردت إليه.
وفي بياناتها بعد عودة اللوحات الأخيرة، أكدت وزيرة الثقافة استمرار العمل على استرداد كنوز مصر المفقودة في الداخل والخارج.. ذلك العمل الذي تقول سلوى حمدي، إنهم "يشعرون فيه بالضياع أحيانًا مثل اللوحات".
لكنها في الوقت نفسه؛ تلفت النظر إلى أن قيمة اللوحات التي أعيرت في الماضي لم تكن مثل الآن، فهؤلاء الأسماء كانوا شبابًا وليسوا روادًا.. لكن المشكلة كلها – كما تلخصها - في أنه "لم يكن عند المسؤولين بُعد نظر لمستقبل هذه الأعمال".
وللمساعدة في هذا الأمر؛ تقترح إعطاء مكافاة من ميزانية الاقتناء لمن يسلم لوحات.. فقد تم تسليم هشام الهواري درع الوزارة فقط دون أي مكافأة مالية، وربما ذلك ما جعله موضع انتقاد على منصات التواصل الاجتماعي – حسبما يقول: "لا أفهم لماذا يسخر مني أحد أو ينتقدني؟، لكنني راضي ومقتنع تمامًا بما فعلته".
أقرأ أيضًأ:
فيديو قد يعجبك: