إعلان

الطريق إلى إيطاليا.. رحلة إنقاذ أطفال غزة المصابين تُفرق الأسر - معايشة

12:46 م الثلاثاء 13 أغسطس 2024

نقل الأطفال من المستشفى الإيطالي بالقاهرة إلى المط

قصة - مارينا ميلاد:

في ساحة المستشفى الإيطالي بالقاهرة، يتجمع عشرات النساء في دوائر، وفي أيديهن حقائب قليلة وبعض الأكياس البلاستيكية.. حولهن، كان الأطفال يركضون ويلعبون؛ بينهم طفلة يلازمها "منديل" تمسح به إفرازات تتساقط من جرح لم يلتئم في فكيها، وأخرى تقفز على قدم واحدة، لأن كسر عظام ساقها الثانية يمنعها من اللحاق بالبقية، وثالث تحذره أمه أكثر من مرة ألا يبذل مجهود زائد، فهو لازال يعاني مضاعفات نزيف الرأس.

كان هؤلاء ثلاثة أطفال، لا تتجاوز أعمارهم العشر سنوات، من بين 17 مريضًا، خرجوا من غزة إلى مصر للعلاج خلال الأشهر الأربعة الأخيرة، تمهيدًا لنقلهم إلى إيطاليا.

60 دقيقة، عليهم انتظارها بهذه الساحة حتى تأت الحافلة التي ستنقلهم إلى المطار ليطيروا إلى إيطاليا، مبتعديــن نحو ألفي كم عن بلدهم، مسرح الحرب الإسرائيلية المستمرة لنحو عشرة أشهر، والتي قتلت أكثر من 39 ألف شخص وأصابت 90 ألف، وتركت آلاف الأطفال مثلهم؛ تفتك بهم الأمراض والإصابات في ظل "وضع مروع، يبدو سرياليًا كما لو أنه من عالم آخر"، حسب وصف مسؤول باليونيسف لما عايشه هناك.

8:30 صباحًا

أسفل ظلال أشجار المستشفى القديم، تفترش ظريفة النجار (45 عامًا) الأرض جوار أطفالها الثلاثة، منتظرة وصول الحافلة.

تبدو "ظريفة" بوجهها المجهد حَــائرة وتائهة تمامًا في تلك اللحظة. كانت تشخص ببصرها نحو ابنتها "ملك" ذات الأربع أعوام والمنتفخ جسدها بسبب أدوية "الكورتيزون"، وربما تفكر في أنها خاضت تلك الرحلة لإنقاذها وضَحت بأشياء أخرى.

فابنتها تعاني تليف الرئتين، المرض الذي فاقمه الفسفور الأبيض المُستخدم من الجيش الإسرائيلي، حسب قول الأم الذي وثقته سابقًا منظمات دولية وشهادات السكان ونفته إسرائيل.

واستنشاق الفسفور- المشابه رائحته للثوم - ولو لفترة قصيرة يؤثر على القصبة الهوائية والرئة، وهو ما أدى إلى اختناق ابنتها، واحتياجها الدائم لأسطوانات أكسجين، في وقت لم تكن هذه الأسطوانات متاحة في أي مستشفى بشمال غزة.

ولما قُصف بيتهم بحي الصفطاوي في هجوم أدى إلى مقتل أكثر من عشرين فردًا من عائلتهم، لم يعد هناك سبب منطقيا لبقائهم. فاضطرت الأسرة للنزوح جنوبًا، حيث خان يونس.

حملت "ظريفة" ابنتها إلى مستشفى الهلال الأحمر الفلسطيني، لتدخل العناية المركزة وتبقى متصلة بالأكسجين، غير أن ابنتها الكبرى ذات الـ11 عامًا كانت بحاجة هي الأخرى إلى العلاج النفسي.. فتحكي الأم "أنها كانت تنام ثم تستيقظ في منتصف الليل وتصرخ، وأحيانا تسقط مغشيًا عليها فجأة بسبب الاضطرابات النفسية جراء الحرب"، كما أخبرها الطبيب هناك.

ظلت "ظريفة" بجانب ابنتها "ملك" عدة ليالي لم تذق فيها طعم النوم. ومثل الآخرين، مر عليهم أطباء وأفراد من منظمات الإغاثة وسجلوا بياناتها للحصول على أقرب فرصة إجلاء إلى مستشفى خارج غزة، ربما تكون قطر أو الإمارات أو الأردن أو إيطاليا.

الآن، تزدحم رأس الأم بكل ذلك. لم تنساه ولم يمر حتى وإن ابتعدت عنه وصارت ابنتاها في حالة جيدة. لكن ثمة شيء آخر هو الأكثر ألما بالنسبة لها.

فمثلما أنقذت اثنتين من بناتها، تركت خلفها أربع أبناء وزوج في مخيم بغزة. إذ لم يُسمح لهم بالسفر.

تقول "ظريفة"، وهي تذرف دموعها، "جسمي هنا وروحي هناك".

ثم تشير إلى الضمادة الملفوف بها يدها، وتكمل: "تعبت من كثرة التفكير فيهم، حتى أنني أجريت عملية المرارة هنا منذ خمسة أيام.. لكن ماذا سأفعل؟.. فقط أطمئن عليهم بالتليفون، وأنا أعرف الوضع بالمخيم، فلا طعام ولا ماء نظيف ولا مكان آمن".

8:45 صباحًا

لا تعرف "ظريفة" أي شخص من الواقفين حولها. لكنها تتبادل أطراف الحديث مع بعضهم كاعتماد جودة، السيدة القادمة من المحافظة الوسطى مع أولادها الأربعة.

يتشابه فعل المرأتين لدرجة كبيرة. إذ نجت "اعتماد" بابنها "يوسف" ذي الـ12 عامًا، والذي أصيب بنزيف بالرأس نتيجة سقوط جدران بيتهم فوقه وانتشاله من تحت الأنقاض. لكن في المقابل، افترقت عن زوجها وأربع أبناء -أكبرهم 23 عامًا ومصاب أيضًا. فهم لازالوا نازحين بمخيم المغازي (وسط غزة).

وقبل المجيء، حاولت "اعتماد" علاج ابنها بمستشفى الأقصى، لكن لم يفلح الأمر وسط ضعف شديد في الامكانيات.. فهناك، أكثر من 150 طفلا في وردية واحدة ولديهم ستة أطباء فقط يقدمون الرعاية، وفقا لما وثقه سليم عويس (مسؤول الإعلام في المكتب الإقليمي لليونيسف)، خلال زيارته هذا الشهر.

مضى "عويس" أسبوعًا بغزة، جعله يقول إن "المشهد يتجاوز حجم الدمار والمعاناة الذي يمكن للناس تخيله عندما ينظرون إلى شاشات التلفزيون، فالأطفال المصابون بجروح الحرب في كل مكان، فضلا عن الذين يعانون من الأمراض المزمنة المختلفة.. يتلقى هؤلاء علاجهم في الممرات. والصراخ والألم حاضران بقوة".

تلك الصورة القاتمة سرعت من قرار "اعتماد": "إن لم اخرج بأربع أولاد، من الممكن أن أفقدهم جميعًا".

دخلت صفاء فهمي على خط الحديث مع "ظريفة" و"اعتماد".. لكنها ربما كانت أفضل حالا منهما إلى حد ما. فقد أتت من رفح بأولادها الخمسة، ولم يبق بغزة سوى زوجها. ولأجل ذلك، تحملت ضغوطًا هائلة ووقعت في اختيارات صعبة.

فتوفر لهذه السيدة عروضًا للسفر من أمريكا والأردن والإمارات لعلاج ابنتها ذات الثماني سنوات والمصابة بكسور في كاحل القدم، ويلزمها علاج عظام طويل الأمد، لكن بشرط سفر الطفلة وأمها فقط.. كانت عروض نجاة مغرية في ظل وضع رهيب. وقد لا تأتي الفرصة ثانية. لكنها لم تكن قادرة على التخلي عن بقية أبنائها، فقررت البقاء.

وكان حظها جيدًا بما يكفي ليأتيها عرض آخر من إيطاليا يسمح بقدوم كل أطفالها باعتبار جميعهم صغار السن.

لكنها تتحدث بصوت مختنق عن زوجها: "ولادي يقولون دائما نريد أبونا.. إذا أعطوا لنا إقامة هناك، يمكن أن نحاول إخراجه".

تقطع التعليمات التي تلقيها إحدى الفتيات المشاركات بالتنظيم حديث هؤلاء النساء، لتبلغ الجميع "أنهم سيجلسون بصالة مغطاة بالمطار لمدة ساعة ونصف، وعليهم خلال هذا الوقت دخول الحمامات وتناول الطعام، لأن هذه الأشياء لن تكون متاحة بنفس السهولة بالطائرة".

9:15 صباحًا

اقترب موعد وصول الحافلة، تشعر "ظريفة" أنها "متوترة وخائفة"، فلم تعرف في حياتها سوى "سفر المعابر"، حيث كانت تسافر بابنتها "ملك" إلى إسرائيل للعلاج، ثم إلى مصر في أواخر مارس الماضي.

وقتها، اتجهت إلى مستشفى دماص بالدقهلية مع 17 عائلة أخرى من غزة. ولم تخرج منها تقريبا إلا عندما حضرت إلى المستشفى الإيطالي قبل أربعة أيام فقط من موعد سفرها.

بينما توزعت بقية العائلات الآتية إلى أماكن أخرى كمبنى تابع للشئون الاجتماعية في دمياط، ومستشفى بمركز "إجا" بالدقهلية، ومعهد ناصر بالقاهرة مثل أسرة مروة نشأت (13 سنة)، والتي كانت تمسك بيد شقيقتها الصغرى المصابة بشظايا غيرت معالم وجهها تمامًا.

كان قلب "مروة" يخفق من فكرة السفر لأول مرة، فاجتهدت في إلهاء نفسها مع فتيات في مثل عمرها.. وقفت معهن في زاوية الحديقة، لتدور أحاديثهن عن غزة لا إيطاليا، عن مدارسهن التي قُصفت ومنافستهن الخائبة على حقائب الغذاء والموت الذي كان على بعد خطوات منهن.

رغم كل ذلك، تقول "مروة": "كل أقاربنا هناك، لم نعرف أحد هنا"، ثم تكمل بقية الفتيات كلامها بالإيقاع والشعور نفسه: "أخذنا على دولة أجنبية، لا نعرفها ولا نفهمها"، "بعدنا عن غزة"، "لو فتحوا المعبر، لعدنا".

وكلما وقعت أعين الفتيات على إحداهن، سارعت لإخفاء قدمها بشكل ملحوظ. فالفتاة البالغة 14 عامًا تعاني من حروق عميقة لدرجة التشوه نتيجة إلقاء قنابل على مخيمهم بمدينة دير البلح. وفشل إجراء عملية لها هناك. فباتت تحتاج لعلاج مكثف وعملية تجميل، كما توضح قريبتها محاسن مسعود، وهي الواصية عليها بهذه الرحلة.

كانت الفتاة واجمة، غير قادرة على الكلام أو تعريف نفسها حتى، لا بسبب إصابتها فحسب، إنما لأشياء أخرى. إذ قتلت تلك الحروق أخيها الأكبر وتفرقت السبل بأسرتها، فبقت والدتها بالشمال ووالدها وبقية إخوتها في مخيم بدير البلح بوسط غزة.

لذا حين جاء اسمها ضمن المجموعة الصغيرة المختارة للإجلاء، لم يكن باستطاعة أمها الحضور بسبب الطرق المغلقة، ولم يكن مسموحًا لأشقائها وأبيها السفر.. فقررت "محاسن" أن تكون مرافقتها، رأت نفسها مناسبة لتلك المهمة، فهي لم تنجب وفقدت كل ما تملك في هذه الحرب. فتقول: "لم أخرج من غزة إلا بجلبابي".

طريق طويل قطعته تلك الحالات لتصل إلى هنا ثم إلى إيطاليا، كانت بدايته مع تسجيلهم للحصول على فرصة العلاج بالخارج، وهي مسؤولية جمعية إغاثة أطفال فلسطين (PCRF)، حسبما يوضح الطبيب مجد أبو حامد (أحد المسؤولين بمقرها في مصر)، والذي يقف ليتابع عن كثب عملية النقل الدائرة بالمستشفى الإيطالي.

فدور مؤسسته، كما يحكيه، "هو جمع كل بيانات المرضى المحتاجين للعلاج، وإرسالها للدول الراغبة في إجلاء حالات للعلاج".

تلك الدول تختار الحالات حسب أولوياتها، فعلى سبيل المثال، سافر 16 شخصًا إلى اسبانيا من المصابين بالحرب، و4 آخرين ذهبوا لبلجيكا كانوا من مرضى السرطان، أما إيطاليا فانتقت حالات مختلفة، خليط من إصابات الحرب والأمراض المزمنة. كما يشرح "مجد"، الذي أشار إلى تنسيقهم مع كافة الجهات المعنية لتسهيل سفر المجموعات المختارة.

وبالطبع، يخضع الأمر لتحريات طويلة.

ولازال هناك آلاف الأطفال على قائمة انتظار المؤسسة، ولا يمكن لـ"مجد" توقع وتقدير الأرقام لاستمرار الحرب وارتفاع وتيرة الإصابات واستمرار إغلاق معبر رفح البري، منفذ غزة الوحيد تقريبًا.

9:30 صباحًا

وصلت الحافلة وطلب المنظمون منهم الاصطفاف، سكون عميق ساد الساحة وكأن تلك اللحظة التي ستغير حياتهم ولا سبيل للتراجع عنها بحاجة إلى التأمل.. ثم اصطفت "ظريفة" و"اعتماد" و"صفاء" وأبناؤهن في طابور، امتد طوله لخمسين شخصًا. التف حوله أفراد من السفارة الإيطالية والدفاع المدني الإيطالي وممثلي منظمات إغاثة والصحة العالمية.

لكن لم يلتفت المصطفين إلا لراهبات المستشفى الإيطالي، حيث استدارت إحدى الأطفال، وأشارت إليهن وقالت: "كانوا أحلى 4 أيام عشناهم منذ بدء هذه الحرب". تركت السيدات المسنات اللاتي كرسن حياتهن للخدمة أثرًا في ذاكرة هؤلاء، ربما خفف مرارة الموت والمعاناة.

وهو أكثر ما يهم إليزبيث، الراهبة المشرفة، فترى أن "دورهن طبي وإنساني". وبلهجة تمزج بين الإيطالية والعربية، تحكي حين رأت تلك الفتاة تبكي في ردهة المستشفى، وذهبت لتحضنها وتسمعها، لتروي لها ما جرى لهم بالحرب.

فتقول: "هؤلاء مروا بصدمات وألم كبير، ليس بالسهل على أي شخص تحملها.. ويريدون فقط أن نسمعهم ونقدر ظروفهم".

ينظر ماركو طارق، سكرتير عام الجمعية الخيرية الإيطالية المالكة للمستشفى الإيطالي، لما يجري ولا يكف عن الحركة لجعل كل شيء مثاليًا، ثم يتحدث عن جانب آخر، يراه يمثل قوة مستشفاهم، وهو التنسيق وتوفير اللازم للحالات في أي وقت. إذ يأتي بعضها عند الفجر، ولابد أن تكون الطواقم الطبية جاهزة.

فيتذكر المجموعة الأولى التي وصلت إليهم مباشرة من غزة، وأغلبها حالات حرجة ومصابون بالصدمة، لا ينطقون بكلمة واحدة.

لا أحد بالساحة الآن.

اسم تلو الآخر تتلوه الفتاة الممسكة بكشف الأسماء ليصعد إلى الحافلة. ولا أحد منهم يعلم ماذا سيحدث بعد وصولهم، هل سيتقدمون بطلب لجوء؟ أو سيحصلون على إقامة مؤقتة ويمكنهم إحضار عائلاتهم؟ أو سيغادرون بعد انتهاء العلاج؟

نظرت "ظريفة" للحافلة نظرة مليئة بالترقب والقلق، تزيد كلما اقتربت منها.. كانت تردد لمن معها: "قلبي وحياتي وأهلي بقوا في غزة". تمنت، كما تحكي، لو كان معها بقية أبنائها، الذين كانوا يتحركون حينها صوب خان يونس مجددًا بعدما نزحوا إلى رفح هربًا من الضربات الإسرائيلية.

في الوقت نفسه، ستسعى أن تؤمن حياة أطفالها الموجودين معها وأن يستكلموا تعليمهم الذي خسروا عام كامل منه بغزة.

يبدو ابنها الأكبر "محمد" (15 سنة)، متحمسًا بعض الشيء عكس أمه، فيقول وهو يرتسم على شفتيه ابتسامة حزينة : "أول مرة نسافر، أكيد ستتغير حياتنا، على الأقل لن نستيقظ على أصوات قصف"، يسَرح قليلا ثم يكمل: "لكن لا أحد يمكنه التخلي عن بلده، إذا توقفت الحرب، سنعود إلى غزة".

أما اعتماد جودة التي لا تريد شيئا من إيطاليا سوى حياة هادئة لها ولأولادها، كما تتحدث مع النساء الأخريات، تُظهر في كلامها أنها إن استطاعت إخراج بقية أبنائها وزوجها، فلن تعود إلى غزة.. فتقول: "لم يعد لدينا هناك بيت ولا عائلة، لم يبق أحد من عائلتنا غيرنا".

وفي وقت أغلقت فيه الحافلة أبوابها، كانت تيس إنغرام (المتحدثة باسم اليونيسف) تحكي للصحفيين في جنيف عن حال أطفال غزة، فنقلت رسالة من طفل يدعى يوسف (14 عامًا) مُصاب بمستشفى ميداني بخان يونس ويحتاج جراحة خطيرة، قال فيها: "أوقفوا الحرب، كفى. لقد تلقيت هذه الطلقة؛ ما ذنبي أن أعاني هكذا؟".

***

بعد وصول تلك المجموعة إلى إيطاليا، نقصت فردًا.. إذ نقلت وسائل إعلام إيطالية نبأ وفاة طفل مُصاب يبلغ من العمر 6 أشهر أثناء نقله بسيارة الإسعاف من مطار بولونيا إلى مستشفى نيغواردا في ميلانو.

اقرأ أيضا:

ذكريات مُلغمة.. ركام حرب غزة يهدد حياة الناجين

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان