سر افتتان "أمير الشعراء" الألماني غوته بالشرق الإسلامي
(دويتشه فيلله)
حين لخص غوته، وهو في عمر الستين بين عامَيْ 1814 و1815، أكثر من 200 عمل شعري في ديوانه الغربي-الشرقي، كان قد قضى بالفعل طيلة حياته مشغولا بالشرق. ولكن ما الذي دفع أمير الشعراء الألماني إلى ما هو بعيد شرقي وروحاني إسلامي؟
يفتتح غوته تعليقاته وشروحاته من أجل فهم أفضل لديوانه الغربي-الشرقي بهذه الكلمات: "من يرغب في استيعاب الشعر/ فعليه الذهاب إلى بلاد الشعر/ ومن يرغب في فهم الشعراء/ فعليه الذهاب إلى أرض الشعراء".
فهذه الرباعية، التي استهلت القسم النثري من الديوان هي ليست مهمة لقراءالديوان فقط، وإنما أيضا لنا جميعاً. لأنه إذا أردنا أن نفهم أين يتجلى حماس غوته للشرق، وماهو سببه، الذي أفضى به أخيرا إلى إنتاج أحد أعماله الأكثر تميزا، فيجب اكتشاف غوته الإنسان وبالطبع الزمن الذي عاش فيه.
يحيا الفن!
ركز غوته اهتمامه طيلة حياته على الفن، متأثرا بفكرة التسامح في عصر التنوير وكذلك بالشخصيات المؤثرة للغاية مثل فولتير. وكان متحمسا للأشياء الجميلة في الحياة - تلك التي تمنحه الفرح والتي تحثه على الترحال الثقافي وتغذي شغفه بالمعرفة.
بالإضافة إلى دراسته المكثفة لعلوم الألوان واهتمامه بعلم التنجيم وجد غوته احتياجاته هذه خاصة في حواره مع الشرق، الذي كان مفتونا به جدا. ففي طفولته نهل الشاعر صورا أدبية وشيئا من الأجواء الشرقية في قصص شهرزاد وحكايات "ألف ليلة وليلة" الشهيرة.
بالإضافة إلى شغفه بهذا النوع من الأدب كان غوته شديد الإعجاب بتقنية السرد الشرقية في الحكايات الخرافية. وحصل أن وافق على اقتراح صديقه الشاعر فريدريش شيلر لنشر بعض هذه القصص في مجلة "هورن"، ورأى في ذلك فرصة ليحذو حذو من يقتدي بهم في الشرق وينشر القصص متتابعة في السلسلة.
غير أنه حدث خلاف فوري بين الشاعر والمحرر. كان شيلر يريد نشر كل القطع سوية فأرسل رسالة إلى غوته ينصحه بعدم نشر الحكايات بشكل مفرد. لكن الشاعر الأمير لم يعجبه ذلك، فهو لا يلتزم بهذه القيود والمتطلبات ولذلك لم يرد عليها.
في وقت لاحق دوّن في مكان آخر بأنه يجب أن تروى الحكاية الخرافية دائما على دفعات، هكذا فقط نخلق الفضول وهكذا يمكن الكشف عماهو مقصود فعلا. وعندما يتعلق الأمر بالفن، لايقبل غوته النصيحة. لم تكن ملاحظة هاينريش هاينه اعتباطية عندما قال إن عصر الفن بدأ "في مهد غوته" وأنه من المفترض أن تكون نهايته مع وفاة الشاعر.
غوته كوسيط بين الثقافات
رغم أن غوته قد أُغدق بالثناء طيلة حياته، ووجد شعره الشرقي وحواره مع الشرق الحماس والإعجاب، إلاّ أنّه واجه بعض الانتقادات من بعض معاصريه، بصرف النظر عن الفترة من الفن، التي استنكر فيها هاينه ابتعاد غوته عن الواقع وعدم الاهتمام بالسياسة في الشرق وقد انتقد غوته بأنه صاغ عالما موازيا، الفن في غنى عنه.
لم يُخفِ غوته، الذي كان من خلال اهتمامه بالشرق وسيطا بين الثقافات، تعاطفه العميق مع هذا المكان الأسطوري ونقد عدم الاكتراث واللامبالاة، واعترف علنا بتصوره الرومانسي والذاتي الذي تتجلى في رحلته الافتراضية. فالشاعر الأمير لم يسافر بتاتاً إلى الشرق.
لو خطط غوته لرحلة إلى الشرق من الولايات الألمانية في بداية القرن التاسع عشر لكان ربما لم يجتَز حدود أوروبا. أصل الجنس البشري، كما يعتقد إلى جانب غوته هيردر وكانط أيضا، كان موجودا في ذلك الوقت على الأراضي التي كان يحكمها العثمانيون منذ القرن السادس عشر، أي الشرق.
حول أصل اللغة بالنسبة لغوته يجسد هذا المكان ليس فقط مصدرا للإلهام، وإنما رأى فيه أيضا موطن أصل الأديان العالمية، ما يسمى بـ "مهد الثقافة الإنسانية". حين توجه الشاعر في رحلاته الافتراضية إلى الشرق، كانت بالنسبة له دائما رحلات إلى ماضيه ومكانا للهوية الجماعية لكثير من معاصريه.
استنتج غوته النتيجة المنطقية بأن أصل الإنسان يجب أن يتزامن مع أصل لغتنا، والتي - بحسب مفهوم غوته - نجدها في أنقى صورها في الشعر، وهذا ما يجعل الشرق يكون وطنا شعريا لنا (نحن الغربيين).
حين يهتم غوته بالقرآن بشكل كبير وعلى نطاق واسع، فإن هذا يعني بالنسبة له أن من المهم جدا تسليط الضوء على قوة القرآن اللغوية وعلى جمال هذا الكتاب المقدس للمسلمين، وهذا ما أكده مرارا وتكرارا، ولم يعطِه قيمة أقل من الإنجيل. ورغم اعترافه أنه حُرم بسبب عدم معرفته للغة العربية من الخبرة الكاملة للقرآن، وجد الشاعر بشكل كبير أن إحساسه الأدبي هو إثراء وفيه الكفاية لإعطاء القرآن هذه القيمة العالية. في القسم النثري من الديوان يناقش غوته الفرق بين النبي والشاعر، وكتب بشكل واضح أنه من الصعب بعض الأحيان بالنسبة إليه اختزال دور النبي محمد بدور الراوي وعدم القدرة على معاملته كشاعر.
لم يكن تقدير غوته للقرآن بسبب روعة لغته فقط وإنما أيضا في حقيقة أن التعاليم الرئيسية في القرآن موجودة أيضا في الإيمان المسيحي، وبالتالي كان غوته قادرا على تأسيس اتصال مع الدين الأجنبي.
عشق غوته للشاعر حافظ
مما لا شك فيه أن الذي ألهم غوته لتأليف ديوانه هي "أُخوّة التوأمة" التي اختارها غوته لنفسه مع الشاعر حافظ. لقد ترك لنا هذا الشاعر الفارسي الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي كنزا من الأعمال الشعرية. وفي يوم من الأيام وقعت في أيدي غوته ترجمة ديوان حافظ الألمانية.
وعند قراءة هذا العمل والعمل عليه أظهر غوته إعجابا فائقا لفن اللغة عند حافظ، والذي رأى الشاعر فيه العديد من أوجه التشابه وكان مصدر إلهام عميق الاعتبار.
خصوصا خلال الفترة التي كتب بها ديوانه ساعده حافظ - كما كان غوته يؤكد مرارا وتكرارا - كشريك في حوار أساسي، وهو ما مكّن الشاعر الألماني الأمير من بناء جسر شعري بين الشرق والغرب، وبالتالي جعله يأخذ دور الوسيط بين الشرق والغرب حتى القرن الحادي والعشرين.
وضع غوته الشاعر والإنسان تصميما "للشرق" متنوعا بقدر الإمكان. هنا يجد المراقب اليقظ نفسه غالبا في بحر من الصلات مرة أخرى، التي تركها لنا المسافر كما فهمها في أوقات هروبه الى البعيد الروحاني ليوضح في النهاية أن : "من يعرف نفسه والآخر/ فسيدرك هنا أيضًا/ أن الشرق والغرب/ لن يفترقا أبداً".
ميلاني كريستينا مور
ترجمة: سليمان توفيق
فيديو قد يعجبك: