الخطر يبدأ من الشمال
صار مشهد الأوناش العملاقة وهي تحمل صخورًا ضخمة لتضعها أمام الساحل مألوفًا للمارين على كورنيش الإسكندرية أكثر من أي شيء كان يميزه في الماضي.
تتركز أغلب الأعمال بمنطقة القلعة التي تكلف مشروع حمايتها وحدها حتى هذا العام نحو 267 مليون جنيه - بحسب رئيس هيئة حماية الشواطئ.
فقلعة السلطان قايتباي،التي استقرت حصنًا للإسكندرية طوال 542 عامًا، تواجه اليوم نوات متكررة وأمواجاً عالية وأمطاراً غزيرة. وتُذكر كواحدة من الأماكن الآثرية المهددة بالغرق. ليس هي فقط إنما المدينة بأكملها.
تلك المدينة التي أنشأها الإسكندر عام 331 ق.م؛ أهَّلها موقعها لتكون نقطة التقاء ثقافات وحضارات مختلفة. لكنه في الوقت نفسه؛ جعلها محاطة بالبحر من ثلاث جهات. فأصبحت من أكثر المناطق الساحلية عرضة لخطر الغرق؛ وهو ما أثاره رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، نوفمبر الماضي، بمؤتمر المناخ في جلاسكو.
فالأماكن التي أخذت موقعها على طول الساحل المصري الممتد بطول 3500 كم كالدلتا والإسكندرية؛ تخشى أن يهاجمها البحر إذا ارتفع منسوبه أكثر نتيجة الاحتباس الحراري وارتفاع درجة حرارة الأرض وذوبان الجليد القطبي.
سنوات إلى الوراء وصولا لعام 2015 الذي كان مفزعًا للإسكندرية عندما غرقت شوارعها. وكأن الأمطار سقط معها تحذير بأن المناخ صار يهدد بقوة؛ لذلك يعتبره أيمن الجمل، رئيس معهد بحوث الشواطئ، عامًا فاصلا: "سقطت كمية أمطار تكفي سنة كاملة في ثلاثة أيام فقط!".
يسعى هذا المعهد بالدراسات والأبحاث التي يقوم بها منذ عام 1972 أن يجنب الإسكندرية السيناريوهات الأسوأ أو على الأقل يحد من آثارها.
فيشرح الجمل أن شواطئها تتعرض للنحر (التآكل) باستمرار ولا يمكنهم إيقافه، لأن رواسب الفيضانات كانت تأتي لتعوضها قبل بناء السدود، لكنها الآن تتآكل دون تعويض خاصة في الشتاء.. وإذا ارتفع منسوب البحر أكثر؛ سيزداد الأمر سوءًا.
وبالمثل، تتعرض أرض القلعة للتآكل أيضًا، بحسب الجمل، الذي يذكر مقولة شائعة في أوساطهم: "الأرض التي تأخذها من البحر يأتي البحر ويأخذها مرة أخرى".
وربما فعل البحر ذلك الآن. فعلاء جمعة، الذي يعمل مستأجرًا لشاطئ سيدي بشر، يجد أنه لم تعد هناك مسافة فاصلة بين رصيف الكورنيش والمياه تقريبًا: "الشواطئ قاربت على الانتهاء؛ فبعد أن كانت المسافة 50 و60 متراً يصطف فيها عشرات الشماسي.. أصبحنا لا نرى رمالاً وتقل عامًا بعد عام".
طيلة عشرين عاما عملها وعاشها علاء على الشاطئ مع والده ثم بمفرده؛ لم يصادفه وضع كهذا أبدًا. لكن تذهب أغلب آراء الخبراء والمسؤولين إلى ضعف احتمالية الغرق وإن حدثت فستكون في المستقبل البعيد. فوفقًا لتقرير وزارة البيئة عام 2016؛ يتوقع زيادة مستوى سطح البحر بمقدار ١٠٠سم حتى عام ٢١٠٠ مع هبوط أرض الدلتا.
وتمثل الكتل الصخرية الحل الوحيد للدفاع حتى الآن.
من هنا، يأتي دور ذلك المعهد الذي يرأسه أيمن الجمل والمعتمد قوامه على 20 أستاذًا و15 مساعدًا تقريبًا، في مراقبة أشكال وأوزان الصخور المستخدمة وما إذا حدثت للقديمة منها شقوق أو كسر.
مينا زكي، المولود بالإسكندرية قبل 38 عامًا، واحد من 5 ملايين ونصف المليون شخص تقريبا يعيشون في المدينة التي تتعرض لتقلبات جوية قاسية تتعطل معها الأعمال والدراسة بشكل متكرر خلال فصل الشتاء الحالي. لكنه يرى ذلك طبيعيًا ومعتادًا بالنسبة لهم. ويقول إن "المشكلة ليست في التغير المناخي بقدر تهالك شبكات الصرف مع مرور الزمن وزيادة السكان".
فيتذكر وقت سيره على الكورنيش وفي شوارع المدينة قبل 15 عامًا: "كنا نستمتع بالشتاء ولم نرها تغرق بهذا الشكل"، لكن الآن يتعرض شارع بيته في حي سابا باشا القريب من البحر إلى الغرق مع كل مرة تهطل فيها الأمطار.
يملك مينا شركة خاصة، لكنه يهوى تنظيم جولات زيارة معالم المدينة بحكم دراسته للآثار؛ فقد وصل إلى الجولة 198. كان هدفه من هذه الفكرة، التي بدأت قبل أربع سنوات، تعريف أهل الإسكندرية بمدينتهم.
ظلت مقابر الأنفوشي، التي تعود إلى القرن الثالث الميلادي، وقلعة قايتباي هما محطات مهمة ومتكررة في جولاته. لكنهما تغيرا كثيرًا في رأيه؛ فيقول إن "قبو القلعة تأثر بشدة من ارتفاع الأمواج، أما المقابر وعددها ستة؛ فأغلبها صار غارقا نتيجة أزمة المياه الجوفية وزاد عليها الأمطار".
ربما تكون تلك الكتل والحواجز كافية للتخفيف من الضرر، لكنها لا تمنعه.
فتتعرض أحجار الأماكن الآثرية بالإسكندرية وغيرها من المناطق الساحلية إلى ضربات شديدة من الرطوبة ورذاذ البحر والأمطار والرياح وتفاوت درجات الحرارة الموسمية واليومية. ولعل قلعة قايتباي هي النموذج الحي الذي تتكاتف عليه كل تلك العوامل.
ينظر عبد الحي شحاته، مدير إدارة ترميم آثار الإسكندرية، إلى مبنى القلعة على أنه أهم وأصعب مهامه. ويقول إن حدة عوامل التلف تزداد عليها عاماً بعد عام نتيجة تغير المناخ فى فصلي الخريف والشتاء؛ فالأمطار تتغلغل داخل نسيج الحجر خاصة الأحجار الرسوبية المكونة لمبنى القلعة، ما يؤدي إلى تفتتها، وتولد الرياح ضغطا هائلا على سطح الجدران وتحمل رذاذ البحر بالأملاح وذرات الرمل ذات التأثير المدمر.
بالبحث عن آخر مشروع ترميم كبير معلن شمل جدران وأسوار القلعة بالكامل؛ فيظهر أنه يعود إلى عام 2005. لكن شحاته يتحدث عن مجموعة من الأخصائيين والفنيين المتواجدين دائمًا هناك للمتابعة يوميًا ومعالجة أى مظاهر تلف وتقوية الأحجار بمواد كيميائية مناسبة لطبيعتها إن احتاجت.
قصة التغيرات المناخية بأكملها ليست بالجديدة، فأدركتها دول متقدمة منذ عشرات السنوات، بينما لم ينتبه إليها العالم النامي إلا مؤخرًا.
وعلى الرغم من أن مصر من أقل دول العالم إسهاما في الانبعاثات المسببة لهذه المشكلة بنسبة 6%، إلا أنها من أكثر الدول المهددة بتأثير هذه التغيرات- بحسب تقرير وزارة البيئة عام 2016.
لذلك، فقد مناخ مصر شهرته بأنه "من أكثر مناخات العالم استقرارًا"، فلم يعد كذلك مؤخرًا.. ارتبك، صار غير معتاد كما وصفته الكتب الدراسية "حار جاف صيفًا.. معتدل ممطر شتاء". تغير بطريقة دراماتيكية أسرع من المتوقع؛ فشهد ما يسمى بـ"الظواهر الجوية المتطرفة" التي سردتها وزارة البيئة في تقريرها الأخير المقدم للأمم المتحدة عام 2018: "زادت هذه الظواهر بشكل ملحوظ في السنوات العشر الأخيرة ما أدى إلى وقوع خسائر بشرية واقتصادية".