تهدأ شراسة المناخ قليلا كلما اتجهنا جنوبًا ويأخذ تهديده شكلا آخر.
في 8 ديسمبر الماضي؛ امتد اضطراب المناخ من الإسكندرية إلى القاهرة. فبالتوازي مع تعطل حركة الملاحة البحرية لارتفاع الموج لـ5 أمتار؛غطت سماء القاهرة عاصفة ترابية شديدة صاحبها انخفاض كبير في درجات الحرارة.
عندما وجد الطقس ينقلب والتحذيرات تأتي من كل ناحية؛ اضطر عاطف عيد (55 سنة) إلى إغلاق "دكانه" المحفور داخل سبيل الأمير عبدالله بشارع الصليبة في منطقة القلعة. وصعد إلى منزله المجاور ليحتمي به. وقد أقام منذ فترة حواجز مضادة للتراب في نوافذه.
يعيش عاطف ويعمل وسط شارع من أقدم شوارع القاهرة الإسلامية في العصور الوسطى، ممتد لمسافة نصف كم تقريبًا من ميدان القلعة وحتى السيدة زينب، وسمي بهذا الاسم منذ حوالي 700 عام لتقاطعه مع عدة شوارع الأخرى.
أمام بيت "عاطف" وفي المكان نفسه الذي يمر به الآن "تكاتك" وأتوبيسات وسيارات تصدر عوادم في وجه المباني الآثرية، كان يمر مواكب السلطان، وتُبنى المنشأت العسكرية ومساكن أهم الأمراء.
تبقى من ذلك الوقت فيض من الآثار الإسلامية بأزمان وأنماط مختلفة: مدرسة وجامع قايتباي المحمدي، سبيل وكُتّاب الأمير عبد الله، جامع ومدرسة شيخون، تكية شيخون، سبيل وكُتّاب أم عباس، جامع تغري بردي الرومي.
خيمت العاصفة المحملة بالأتربة على تلك الأماكن وغيرها؛ فكان تأثيرها كتأثير "المنشار عندما يقطع في الخشب".. بحسب أكمل علي، أخصائي الترميم، الذي يرى أن الظواهر الغريبة صارت اعتيادية وفتراتها متقاربة خاصة في أخر ثلاث سنوات، ما أثر سلبا على الآثار.
فعندما تسقط الأمطار؛ تملأ المساحة المنخفضة التي يجلس فيها "عاطف" أمام "دكانه" ليصلح السيارات، فيغلق أبوابه ويترك المياه لتمتصها الأرض حتى اليوم التالي. لكن ما لا يعرفه أن هذا المطر حمضي يؤثر على مادة الأحجار الجيرية بالمباني حوله وألوانها - كما يقول أكمل- ويزيد على ذلك الحرارة المتذبذبة في اليوم الواحد، وهي الظاهرة الجديدة على القاهرة والتي ينتج عنها تقشر الجدران ومحو الكتابات مع تكرار حدوثها.
ولأن الآثار الإسلامية تتوسط أحياء القاهرة السكنية وتعاني من مشاكل صرف صحي ومياه جوفية في الأساس، فأصبحت التغيرات المناخية عاملا محفزا يزيد مشاكلها ويسرع من تلفها.
بعد دراسته هذا الأمر لفترة طويلة، أصبح محمود عبد الحافظ، وهو أستاذ مساعد بكلية الآثار في جامعة القاهرة، على يقين أن "جميع آثار القاهرة في خطر".ذلك لأنها المدينة الأعلى تلوثًا؛ إذ تتأثر الأحجار بالأدخنة والعوادم خلاف الأمطار، كذلك تتعرض الواجهات للرياح وتزيد مع الأماكن بالمناطق الصحراوية مثل سقارة.
تبدو تلك الأحاديث جلية على الجدران بزيارة أماكن شارع الصليبة. وقد بددت تلك العوامل هيبتها.
شارع الصليبة
بعدما يهدأ الطقس؛ يعود "عاطف" إلى عمله. يعرف أسماء كل الآثار الموجودة حوله وقليلا عن حكايتها؛ فهذا السبيل الذي يستند على حائطه هو للأمير عبدالله وكان به كُتاب يتعلم فيه الأطفال، وهذا سبيل أم عباس التي بنته والدة والي مصر عباس حلمي الأول على روح ابنها: "لم أكمل تعليمي، لكن وجودي هنا عرفني معلومات كثيرة.. فأصبحت أعرف قيمة الأشياء التي أعيش وسطها وأخاف عليها".
لا يدرك الرجل الكثير عن مسألة تغير المناخ. لكنه ينتبه إلى تقلبات الجو التي أصبحت مفاجئة، بل ويلحظ تأثيرها على الأحجار التي تم تركيبها بالمباني الآثرية عند ترميمها وليس الأصلية القديمة.. يقف في مكانه ثم يشير إلى مباني ويقول: "انظري إلى الفرق بين شكل الحجر .. القديم سليم والجديد به شروخ!".
يجاور "عاطف" لافتة مشروع ترميم هذا السبيل، لكنها تعود إلى عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، وقد شوّهتها الكتابات عليها حتى صار التاريخ غير واضح.
بالنسبة لخلود خيري، المتخصصة في ترميم الأحجار والصور الجدارية منذ 2009، فالتباطؤ في عمل "صيانة وقائية" للمباني هو الأزمة الحقيقية. فتقول إنه لم يتم استدعاؤهم كمرمّمين بعد حدوث تقلبات مناخية بل ينتظرون بعد سقوط شيء. ويؤكد أكمل على ذلك: "إذا كلفتنا الصيانة الوقائية جنيه فبعد وقوع مشكلة ستكلفنا 100".