لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

«نـــور» لشريف حتاتة.. حكاية امرأة تُقاوم حصاراً وانتهاكاتٍ لم تتوقف

د. أمــل الجمل

«نـــور» لشريف حتاتة.. حكاية امرأة تُقاوم حصاراً وانتهاكاتٍ لم تتوقف

د. أمل الجمل
07:09 م السبت 22 مايو 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بعض الناس عندما يَطالُهم الظلم، وتُغتصب حقوقهم تتأجج لديهم الرغبة في الانتقام والثأر؛ إما بالقتل أو بتخريب حياة المغتصب.

هناك فئة ثانية يمنحهم الظلم مزيداً من البصيرة، فينتقمون لأنفسهم بأسلوب مغاير لا يُسبب أذًى للآخرين، وليس شرطاً تحقق المغفرة؛ إذ يتخذون من ذلك الانتهاك وقوداً يُغذي قواهم على تحقيق ذواتهم وطموحهم من دون عنف، وكأنهم يستمسكون بالمثل القائل: «كل ذي عاهة جبار».

ونور بطلة أحد أهم روايات شريف حتاتة، التي تحمل نفس العنوان والصادرة عن دار المحروسة، مصر- تنحاز للنوع الأخير.

إنها فتاة صعيدية اِنتُهك جسدها بتدبير من عمها وبمشاركة آخرين، واضطرت جدتها لأن تُهربها إلى القاهرة لتُكمل تعليمها، وهناك لا تجد مفراً من العمل كبائعة للهوى لإنقاذ نفسها وكذلك (أم هاشم) المرأة المريضة التي تعيش في بيتها.

تحيا (نور) بين عالمين متجاورين وأحياناً متداخلين، فبعد أن يغيب النهار ترتدي قناع فتاة الليل، وتمنح جسدها الميت لراغبي المتعة في الأمسيات بمساعدة الكوافير (سوسو) وأخته وبتواطئ من البواب وآخرين من أهل الحي، ثم في الصباح تستعيد نهارها ونفسها كطالبة بمعهد الفنون المسرحية.

منذ البداية، حسمت المرأة التي صارتها الصبية (نور) أمرها بأن مهنتها تلك مؤقتة حتى تنتهي من استكمال تعليمها، وتُصبح قادرة على كسب قوتها من عمل آخر تُحبه، وأن تسعى بكل قوتها وإرادتها لتقف على خشبة المسرح.

لكن هل يسمح لها المجتمع؟ هل يتركها (سوسو) وعصابته تفلت من بين أيديهم خصوصاً بعد أن أصبحت ممثلة مشهورة يتهافت عليها الكبار وأصحاب الملايين؟

ألم يقلها هيرمان هيسه ذات يوم: "مُتاح لك أن تكون شاعراً، لكن ليس مسموحاً لك أن تُصبح شاعراً"، وهنا تكمن قضية (نور).

صحيح أن (نور) لم تغفر لمن اغتصبوا جسدها ولمن ظلموها، حتى جدتها إلا بصعوبة، لكنها لم تفكر في الانتقام طوال سنوات. إذن، متى راودتها فكرة الانتقام؟ ولماذا؟

اضطرت إلى بيع جسدها في البدء، ثم واصلت الطريق باختيارها وإرادتها لتُنهي تعليمها. كانت تعتقد أنها لن تُكمل السير في ذلك الطريق بقية حياتها، إنه أمر مؤقت ومجرد مرحلة انتقالية عابرة وزائلة.

لكن ظهور "نبيل عطا الله" السياسي القواد ورجل البرلمان السابق أكد لها أنها لن تخرج من هذه الشرنقة أبداً، وأن المجتمع الفاسد يضرب حصاراً منيعاً من حولها ويساومها على جسدها، وأن جمالها صار لعنة تُطوق مستقبلها. لذلك عندما انتهى "عطا الله" من تهديده ووعيده جاءتها مُجدداً من بئر ماضيها صورة عمها عبدالجابر الذي قادها إلى ذلك المصير.

إنها لم تختر هذا المسار، بل فُرِض عليها. أصبحت تسير في نفق دائري مغلق وضِمْن فضاء لا يُمْكِنها أبداً مغادرته، لذا كان قرارها غير المعلن أن تذهب إلى المنبع، إلى جذر المشكلة، وتقضي عليها. ومن ثم كان قرار القتل والانتقام. لذلك أيضاً بدا الفصل الأخير من الرواية والذي تستعد فيه البطلة للثأر من عمها، وكأن كل عمل وكل خطوة تقوم بها نور تتحول إلى شعيرة كاملة تُؤديها، وكأنها شعيرة وطقس ديني خالص يُطهرها من مأساتها.

الفجوات

على عكس روايات شـريف حتاتة السابقة تنهض «نـور» على أكتاف بطلة واحدة رئيسية. صحيح أن النص يزخر بشخصيات عديدة رجالاً ونساء بعضها جاء مُضاءً بمصابيح قوية، والبعض الآخر كان يحيا على أطراف الضوء، في الهامش أو في الظِل، شخصيات من أوساط وأنماط ثقافية وتيارات سياسية متباينة، لكنها جميعاً ظلت تدور في فلك (نور).

كذلك تتميز الرواية عن الأعمال السابقة لمؤلفها بأمرين آخرين: أولهما إعادة طرحها مفهوم الشرف. وثانيهما الفراغات والفجوات التي تحيط بالشخصيات وبالأحداث التي تكتسي بمزيد من الغموض.

يبدأ الغموض مع شخصية الجدة التي نستشعر أنها محاطة بغلالة تخلق حالة من الالتباس والحيرة، فهى التي قامت بتربية (نور)، وكانت تُصر على تعليمها وتُحضر إليها الشيخ في البيت ليعطيها دروساً في القراءة والكتابة.

الجدة هي أيضاً من أصرت على أن تذهب نور إلى بيت عمها عبدالجابر في تلك الليلة المشؤومة، فهل كانت تعلم شيئاً؟ أو على الأقل هل كان يُراودها هاجس وشكوك؟

لا ندري على وجه اليقين. لكن ما يدعم الرؤية المرتبكة حولها هو تلك النظرة في عينيها وصرامتها وقسوتها عقب اغتصاب (نور): «عادت إليها نظرة جدتها وهى تحملق فى جسمها الممدود عند قدميها، تعرت أجزاء منه حيث تمزق جلبابها، وملامحها تطل عليها فى جمود».

اللافت أيضاً أن الجدة هى التي دبرت هروب (نور) كي تفلت من هذا المكان وذلك الشرك المنصوب لها. وقد ظلت ترسل إليها ببعض النقود لتساعدها على الحياة حتى نفد معينها. وكأن الجدة كانت تقرأ المستقبل، وتعرف أن مواردها البسيطة مصيرها إلى زوال.

لكن المثير للتساؤل أن امرأة بمثل هذه الشخصية والجبروت والحزم لم تكن قادرة على منع ابنها من تنفيذ مخططه أو على الأقل عدم تهيئة المناخ له، فهل كان بيع الأرض يتوقف على هذه المساومة؟

قطعاً لم يكن العم هو المغتصب الوحيد للفتاة، وهذا ما يشي به النص: «والتفت حول ذراعيها، وساقيها أيادٍ أخرى، وكأن كائنًا متعدد الأطراف كالأخطبوط هو الذى انقض عليها، فأدركت أنه يُوجد أكثر من رجل».

كذلك شخصية علوية رستم ممثلة المسرح المشهورة يكتنفها الغموض في كثير من تصرفاتها وحياتها وأصولها الفلسطينية المغربية. (نور) نفسها يُحيط بها بعض الظلال، كما أنها تختفي ولا نعرف تحديداً كيف صارت حياتها بعد تلك الواقعة، كيف هُيئ لها السفر للخارج لتُصبح ممثلة مسرح هناك، مثلما تأتي شخصية عزيز المغربي الحبيب اليساري محاطة بكثير من الفراغات أبرزها رفضه أن يلتقي بحبيبته (نور) عندما زارته في المعتقل وإصراره على إنكار معرفته بها، وخصوصاً أن (نور) بذلت تضحية كبيرة من أجل هذا اللقاء.

تتنوع وتتباين الفراغات التي تتخلل النص، والتي سوف يملؤها كل قارئ على طريقته الخاصة، كلٌّ وفق ثقافته، ودرجة وعيه وقدرته على الغوص عميقاً.

إنها فراغات تمنح النص قوة، في ظل مهارة شريف حتاتة وقدرته على أن ينسج الخيوط التي تربط الشخوص ببعضها، مهما كانت ثانوية أو هامشية، وهو يُنجز هذا بأسلوب مدروس متأنٍ يجعلنا نحن- القراءَ- ننغمس في هذا العالم، ونتماهى مع هشاشة الإنسان أمام الأقدار العاصفة، ونتفرس بعيون صامتة وقلوب حزينة في تلك القوى العاتية التي تلف شباكها بقسوة وصرامة وإتقان من حول الضحية.

إن بناء الشخصيات عنده يكتمل بالقدر الذي يُريده ويُحدده، فيجعلنا نصل أحياناً إلى تفسيرات وتحليلات لأشياء وتصرفات وسلوكيات كانت تبدو غير قابلة للتفسير، كما يطرح عبر التوتر المستمر بين ماضي الشخصيات وحاضرها بدائل غير قابلة للحسم بين الصواب والخطأ، وبين الوفاء والخيانة، وبين الفضيلة والرذيلة، وبين الخزي والشرف.

الرواية إلى جانب واقعيتها تحمل في متنها بعداً رمزياً؛ فشخصية (نور) يُمكن اعتبارها معادلاً رمزياً لمصر المنهوبة والمغتصة والمتصارع عليها فيما قبل الثورة.

والرواية بمثابة إهداء لاثنين من أجمل الفنون: أولهما الفن السابع؛ إذ تبدأ من قاعة للعرض السينمائي عقب انتهاء أحد الأفلام، حيث يلمح عزيز المغربي امرأة بين الحضور تُذكره بحبيبته (نور)، فيخرج باحثاً عنها عند أم هاشم.

ومنذ تلك اللحظة يبدأ الماضي في ابتلاع الحاضر وربما المستقبل أيضاً.

فالرواية قائمة على الفلاش باك بتنويعاته باستثناء الفصلين الأوّلين والخاتمة.

ثم تُختتم في قلب قاعة للعرض السينمائي مجدداً حيث لقاء نور وعزيز.

كذلك يبدو النص كأنه تحية لفن المسرح- ذلك الفن الذي لعب دوراً مزدوجاً متناقضاً في حياة البطلة؛ فمثلما كان سبباً جوهرياً في طمع الكثيرين في جسدها ومساومتها عليه، لعب أيضاً دور المخلّص، فأنقذها من الحصار المضروب حولها.

للرواية بداية ونهاية، لكنها لا تستند إلى ذروة واحدة، بل تنهض في بنائها على ذُرًى عديدة ومتفاوتة، منها واقعة الاغتصاب، والمساومة على جسدها من رجل البرلمان القواد تحت وقع التهديد، وتضحية (نور) لأجل زيارة حبيبها في السجن، ثم واقعة القتل.

وصحيح أن شريف حتاتة- كما فعل كثير من رواياته السابقة- يكشف عن مصير بعض شخصياته منذ البداية، وهو نهج اتبعه منذ روايته الثانية "الشبكة" التي تبدأ بحادثة قتل أو انتحار، لا ندري أيهما على وجه اليقين، ثم يعود بنا المُؤلف إلى الماضي ليسرد الوقائع التي قادت إلى ذلك الحادث، لكننا منذ البداية نعرف النهاية، نُدرك أن هناك قتيلا وأن الإعدام ينتظر بطلنا التراجيدي في الصفحات الأخيرة.

في «الشبكة» أو «نور» معرفة الخاتمة منذ لحظة الاستهلال يخلق تشويقاً كبيراً طوال الطريق، وتلك الرحلة التي يقودنا خلالها المؤلف ليكشف لنا تفاصيل الأحداث وتراكمها تدريجيا عبر بناء فني وجمالي مُحكم.

فتحية إلي روح الروائى المبدع الإنسان د. شريف حتاته في ذكراه الرابعة.

إعلان

إعلان

إعلان