مصراوي يحاور أصغر متهم بالأخونة والقتل.. "في سنة أولى إعدادي"
كتب - أحمد الشمسي:
في إحدى ليالي أغسطس الحارة، تمكن العرق من الأم، ألم المخاض سيطر عليها، "الداية" بداخل الغرفة، الأقارب يساعدونها، الوالد متوتر، أطفاله يترقبون بنظرات البراءة "ما بال أمُهم"، دقائق وانطلقت صرخات الطفل الصغير لتُنذر بقدوم مولودٍ جديد، "ولَد يا أستاذ ماهر.. ولَد"، احتضنته الأم، كبَر له الأب في أذنيه، حنكهُ سنةً عن النبي، قبلُه فتركه بجوار زوجته، تهللت أسارير أشقاؤه الذين كانوا ينتظرون ما ستُسفر عنه هذه الصرخات، انتهت الليلة، وأصبح للطفل أولى وريقاته داخل الدولة، شهادة ميلاد تحمل اسم "إسلام ماهر الشرقاوي"، تاريخ الميلاد 31 أغسطس 2004.
في أواخر شهر سبتمبر من العام ذاته، انتشر صدى النواح ليهز أركان المنزل، اتشحت الأم بالسواد، بكى الأطفال، انهار الأب، توفي إسلام صريعًا داخل "البانيو" البلاستيكي الصغير، حينما وضعته الأم بداخله للاستحمام، غرق الرضيع "إسلام" فيما انشغلت الأم عنه لثوان، "أنا اللى قتلته.. أنا السبب في موته"، تقول الأم مُنهارةً في بُكائها، وصُراخها، وعويلها، تروي ربة البيت أصعب لحظات مرت في حياتها، تتخيل مشهدًا حدث منه القليل، وربما كاد يتفاقم لو غادر "إسلام" الدنيا رضيعًا، إلا أن الله نجاه، ليكتب استمرار حياته، ويعيش "إسلام"، تروي الأم لمصراوي، قبل أن تمر 10 أعوام ويخفق قلبها فور قيام قوات من الشرطة بالقبض على طفلها، وتوجيه اتهامات له بالأخونة والقتل.
مُقتادًا، مُكبلاً بالأصفاد، إلى سجن قسم السادات، وضعوه داخل الزنزانة، يحكي "إسلام" لمصراوي المشهد، غُرفة فيها المساجين مُتراصين بجوار بعضهم البعض، أهم ما في الأمر أن تجلس في مكانك وتحافظ عليه، والأهم من المكان، تنظيم موعد دخولك الحمام، أو كما ُيطلقون عليها "الدورة"، يُشير إسلام إلى أن دخول الحمام بالطابور، والمساجين المنبوذين مكانهم دائمًا ما يكون بجوار "الدورة".
الأسرة المنوفية الصغيرة، تتكون من والدين، الطفل الأكبر "أمير" يدرس بالمرحلة الجامعة، يصغُره في العمر "أحمد" في آخر سنوات المرحلة الإعدادية، ويأتي "إسلام" بعُمر 11 عامًا، كآخر العنقود.
"كان كل شيء يسير بشكل طبيعي، كل حاجة في إسلام حلوة، بالرغم من أنه أصغر أشقاؤه البنين، إلا أنه أرجل إخواته، كله رجولة وحماس وشهامة، تحس انك بتكلم راجل، لو شاف واحد عريان في الشارع يقولى يا ماما اديلو هدومي، صغير بس تفكيره كبير"، تقوله والدته.
يوم السبت 5 مايو عام 2015؛ نظم عدد من أنصار جماعة الإخوان مسيرة بمدينة السادات، تحولت إلى اشتباكات بين الأمن وأعضاء المسيرة، انطلقت الرصاصات، وقُتل على إثرها طالب في الصف الثاني الثانوي يُدعى "أنس رمضان"، شيعَ جِنازته المئات من أهالي المدينة، جِنازة تحولت في ثواني إلى مسيرة بهتافات مناهضة للجيش والشرطة.
يوم 30 يناير 2016؛ قرر "إسلام" الذهاب إلى أصدقائه بمدينة السادات بالمنوفية، وفيما هو يشُق طريقه، شعر بأشخاص يراقبونه، خمسة أشخاص، يرتدون زيًا ملكيًا، يرصدون الطفل بأعينهم، لم يبالِ "إسلام" وذهب في طريقه، وما أن وصل إلى منزل أحد أصدقاؤه، حتى وجد من يحيطونه، ربت أحدهم على كتفي الطفل بعُنف متهمًا إياه بـ "الأخونة"، فيما تداخل ثاني في الحديث باسمًا "إنت بقى اللى مخلى مديرية الأمن واقفة على رِجل"، وشمت ثالث في وجه الطفل "بقى انت يا صغير يا زِبله الحمام.. تقتل وتعور رجالتنا".
ما بين التاريخين، 5 مايو 2015، و30 يناير 2016، شهور من الكر والفر، بسبب اتهام وجهه رئيس مباحث مدينة السادات للطفل بأنه قاتل "أنس رمضان"، إسلام هو من قتل "أنس"، وأصاب مجندين يتبعان قوات الشرطة، وتظاهر، علاوة على ذلك أنه عضو في تنظيم الإخوان، تروي أم "إسلام".
في تقرير صادر عن فريق الاعتقال التعسفي التابع للأمم المتحدة حمل رقم 17/ 2015، قال إن هناك أكثر من 3200 طفل تحت سن الثامنة عشر اعتقلوا منذ ثورة 30 يونيو، في حين ما زال أكثر من 800 منهم رهن الاعتقال، وتعرض أغلبهم للتعذيب والضرب المبرح داخل مراكز الاحتجاز المختلفة، بحسب التقرير، وعلق الفريق الذي أعد التقرير على ما يحدث في مصر بالقول "الاعتقال التعسفي للأطفال في مصر أصبح مُمنهجًا وواسع الانتشار".
"ليست جناية المستبد على أسيره أنه سلبه حريته، بل جنايته الكبرى عليه أنه أفسد عليه وجدانه، فأصبح لا يحزن لفقد تلك الحرية، ولا يذرف دمعة واحدة عليها، كان يأكل ويشرب كل ما تشتهيه نفسه وما يلتئم مع طبيعته، فحالوا بينه وبين ذلك، وملؤوا قلبه خوفاً من المرض أو الموت، وأبوا أن يأكل أو يشرب إلا كما يريد الطبيب، وأن يقوم أو يقعد أو يمشي أو يقف أو يتحرك أو يسكن إلا كما تقضي به قوانين العادات والمصطلحات، لا سبيل إلى السعادة في الحياة، إلا إذا عاش الإنسان فيها حرًّا مطلقاً، لا يسيطر على جسمه وعقله ونفسه ووجدانه وفكره مسيطر إلا أدب النفس".. جزء من درس "الحرية" لمصطفى لطفى المنفلوطي الذي يتعلمه "إسلام" في المدرسة في كتاب "القراءة".
نحن في الزنزانة 37 فردًا، الجو مزدحم هنا، والحر شديد، نجلس جميعًا بـ "الفانلات الحمالات"، ولا يقوم حُراس السجن بتشغيل الشفاطات أو حتى مراوح التهوية، تشعر بالنفس في شهيقه وزفيره، معظم من معي هنا من كبار السن، والشباب، أنا أصغر طفل داخل الزنزانة، وأعتقد أنني حاصل على أكثر التُهم، أنا مُتهم "بحسب محضر الشرطة" بالأخونة والتظاهر، وقتل مواطن، وإصابة مجندين، يقول "إسلام".
تقول المادة 112 من قانون الطفل "لا يجوز احتجاز الأطفال أو حبسهم أو سجنهم مع غيرهم من البالغين في مكان واحد، ويراعى في تنفيذ الاحتجاز تصنيف الأطفال بحسب السن والجنس ونوع الجريمة.. ويعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر ولا تزيد على سنتين وبغرامة لا تقل عن ألف جنيه ولا تجاوز خمسة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل موظف عام أو مكلف بخدمة عامة احتجز أو حبس أو سجن طفلاً مع بالغ أو أكثر في مكان واحد".
على حائط انفضّ من عليه الطلاء، وداخل غُرفة صغيرة المساحة؛ يتكأ "إسلام الشرقاوي" - الطفل ذو الـ 11 عامًا - داخل زنزانة مُعبقة برائحة الدُخان، يركن كل محبوس من الـ 7 أشخاص محبوسين مُتخذًا موطئًا، لا أحد يذوق حلاوة النوم في تلك الزنزانة، "الغفوة" هي المُصطلح الأنسب لحالة نومهم، يرتدون جميعهم ما يسترهم، الجو حارُ بالدخل، باردُ بالخارج، يسعُل "إسلام" دومًا "أصلي عندي حساسية على صدري"، عيناه حمراوتان كلون الدم، وجِفناه مُرهقان، يتذكر بأسى قائمة التُهم الموجهة إليه "أنا معملتش حاجة.. لبسولي التهمة إكمني عيل.. الشرطة تقتل الناس وتلبسهالنا.. وأسهل تهمة دلوقتي انت إخوان"، يقول إسلام في حواره لمصراوي.
مساء يوم 30 يناير من العام الحالي، لطمتْ "أم إسلام"، جمعت الجيران حولها، صُراخها صدى تردد بين أركان منزلهم المتواضع بمدينة السادات، مات صغيرها مرة ثانية، تساءلت ماذا لو كان فعلا مات؟، بل إنه حتمًا سيموت، ماذا سيتغير، لا شيء، الأمور ستسير كما سارت، لا أحد سيلتفت إلى موت طفل صغير، تتخيل ألوان التعذيب تتشكل على جسد ابنها الذي حملته رضيعًا، الصعق بالكهرباء، التعذيب، ويكفي ألدُ الشتائم التي ينالها، وتطول عائلته بأكملها، هذا ما رأته الأم عند سماع خبر القبض عليه، في الزيارة الأسبوعية له، تقوم بإلقاء نفحات الصبر عليه "استحمل يا ابنى .. انت راجل.. انت كويس.. قدها وقدود"، فيما يرد عليها هو "متقلقيش"، تروي الأم.
"لا يُحبس احتياطياً الطفل الذي لم يتجاوز خمس عشرة سنة، ويجوز للنيابة العامة إيداعه إحدى دور الملاحظة مدة لا تزيد على أسبوع وتقديمه عند كل طلب إذا كانت ظروف الدعوى تستدعي التحفظ عليه، على ألا تزيد مدة الإيداع على أسبوع ما لم تأمر المحكمة بمدها وفقاً لقواعد الحبس الاحتياطي المنصوص عليها في قانون الإجراءات الجنائية.. ويجوز بدلاً من الإجراء المنصوص عليه في الفقرة السابقة الأمر بتسليم الطفل إلى أحد والديه أو لمن له الولاية عليه للمحافظة عليه وتقديمه عند كل طلب، ويعاقب على الإخلال بهذا الواجب بغرامة لا تجاوز مائة جنيه".. نص المادة 119 من قانون الطفل.
66 يومًا قضاها - ومازال - الطفل إسلام داخل حجز قسم السادات بالمنوفية، لم يُعرض على النيابة حتى الآن، محبوس احتياطيًا، علِم التهم الموجهة إليه من محمود الشاذلي رئيس المباحث الذي أمر بالقبض عليه وحرر محضر بذلك، يؤكد "إسلام" أنه لم يقتل أحدًا، ينفي انتماؤه للإخوان، يُشدد على عدم إصابته لأى مجندين، يقبع في غياهب الزنزانة، لا يعلم بأمره أحد، فيما يردد هو هذه العبارات، يُعينه على قتل الوقت حديث السجون.
لا يجوز اتهام طفل أقل من 18 عام بمثل هذه الجرائم وذلك طبقا للقانون المدني المصري، هذا ما يؤكده أحمد مصيلحي - رئيس شبكة الدفاع عن الأطفال - متمنيًا أن ينظر مطبقو العدالة في مصر إلى القانون قبل إصدار أحكامهم، وأن يلتفت ضباط الشرطة إلى القانون قبل إحكام قبضتهم على أطفال دون السن بدون مراعاة لمواد القوانين، مشيرًا - في تصريحات خاصة لموقع مصراوي - "للأسف هذا لن يحدث لأنه لا أحد يطبق القانون ولا حتى ينظر إليه ولا يعرفه".
وأوضح الحقوقي المهتم بقضايا الأطفال المعتقلين أن "إسلام الشرقاوي" يُعد من أصغر المتهمين في مصر، والذين يتم اعتقالهم ويظلون فترة كبيرة داخل السجون قبل العرض على المحكمة، مؤكدًا على ضرورة وجوده الطفل مع أطفال مثله في العُمر، ولا يُحبس مع مساجين أكبر منه عمرًا.
"الحرية شمس يجب أن تشرق في كل نفس، فمن عاش محروماً منها عاش في ظلمة حالكة، يتصل أولها بظلمة الرحم، وآخرها بظلمة القبر. الحرية هي الحياة، ولولاها لكانت حياة الإنسان أشبه شيء بحياة اللُّعب المتحركة في أيدي الأطفال بحركة صناعية"، أولى دروس مادة القراءة للصف الأول الإعدادي بعنوان "الحرية" لـ "مصطفى لطفي المنفلوطي"، كل ما يتمناه "إسلام" هو الحرية، الخروج من قبو ظلام زنزانة مُعبقة برائحة الدخان، ليُكمل أحلامه المبتورة، ويُرمم كيانه المُنكسر، ويُلملم حُطام أفكاره المُبعثرة على أرضية سجن قسم شرطة مدينة السادات.
فيديو قد يعجبك: