محمد رضا "شهيد هندسة القاهرة".. يموت الابن وحقّه في قلب الأم "حيّ" (حوار)
حوار -دعاء الفولي وإشراق أحمد:
في حلمها تُمسك بيد الابن، يسيران سويا بتؤدة، يتركها فجأة ليذهب يمينا وتتجه هي إلى اليسار، تراه واقفا فيما تقترب منه موجات عالية تبتلع كل شيء، تتيقن أنه سيغرق، غير أن المياه لا تمسّه، فيستمر الشاب في مسيرته سالما، بينما تشعر فاتن مُغازي بالمياه حولها، لكنها غير نظيفة، مليئة بالقاذورات والحشرات، "تعافر" لتهرب لكنها لا تفلت، ينتهي الحلم وتبقى تفسيراته "ابنك في مكان أحسن وأنتي متحاصرة بقضيته وحقه اللي لسة مجاش".
لأكثر من عامين تسعى الأم خلف حق محمد رضا، طالب هندسة المقتول داخل الكلية، في 28 نوفمبر 2013، في صمت كانت تنقب عما ينصفه، قبل أن تبصر محاولات "التستر" على إهدار دمه حسب قولها، آخرها حفظ القضية في فبراير الماضي، فأخذت تدعو لمؤتمرات لعرض ملابسات قضيته، تفرد الأدلة كأنها محامية محترفة، تواجه النيابة بأوراق تُثبت تورط الشرطة بمقتله، وتُعادي من ينصحها بالكف عن السعي، كأنما يطلبون منها التوقف عن أن تكون أم.
لم تعد تعبأ والدة محمد لشيء، كانت لحظة رؤيتها لجسد ابنها الكبير في المشرحة، حدٌ فاصل بين حياة عادية وغضب لا يهدأ أبدًا. لم تلتفت الأم للملام الذي أمطرت به، أثناء رحيلها، بعد إخبار الطبيب لها أن الجثمان لن يخرج قبل صباح غد الجمعة 29 نوفمبر 2013، كانت الساعة تجاوزت التاسعة مساءً حين أبصرت أنها أضاعت صلاة المغرب والعشاء، فيما تريد أن تصلي وتتولى غسل صغيرها، لهذا عادت لمنزلها، لتعد نفسها لإجراءات التكفين، يغشاها الصدمة والبكاء "لكن عارفة ومقتنعة إن محمد مات وعمره انتهي وده قدر ربنا بس استوعب إني مش هشوفه تاني دي كانت بالنسبة لي كبيرة أوي" تستعيد والدة محمد اللحظة التي لازالت في خضمها رغم مرور أكثر من عامين على رحيل ولدها.
الخميس الموافق 28 نوفمبر، اندلعت المظاهرات في حرم جامعة القاهرة، حاول الطلبة الخروج من الباب الرئيسي، غير أن قوات الأمن المشكلة من الكتيبة الثالثة لقطاع عمر بن الخطاب، المتضمن 3 عربيات مصفحة، تحوي كل منها 75 مجند، تحت قيادة 6 ضباط أمن مركزي، و3 ضباط شرطة -وفق العقيد محمد سعيد رماح المسؤول عن التشكيل الأمني- أعادوا الطلاب إلى الداخل، بعد إلقاء قنابل الغاز، وإطلاق الخرطوش، وفقا لشهادات الطلاب والأساتذة المتواجدون في هذا اليوم، فيما أُغلقت أبواب كلية هندسة القاهرة، الواقعة خارج الحرم الجامعي، وخلف الباب وقف عدد من الطلاب، يطلعون على ما يحدث، بينهم "محمد"، قبل أن تتوجه قنابل الغاز، وطلقات الخرطوش نحو باب المغلق، فيصاب نحو 3 من الطلبة، وأحد الأساتذة، ويلقى "رضا" مصرعه في هذا اليوم.
صدمة نزيفية جراء اختراق طلقات الخرطوش لرئة محمد، أدت لفقدانه أكثر من لتر ونصف من دماءه، مما يعني دخوله مباشرة فيما يشبه الغيبوبة، ويعجز أفضل الأطباء عن عمل شيء لإنقاذه، هذا ما أخبر به الأم عدد كبير من الأطباء، الذين استشارتهم، حينها علمت أن تلقين ابنها الشهادة حدث "وهو يعتبر ميت".
في اليوم الرابع لوفاة محمد، كتمت فاتن حزنها، وقررت الولوج في طريق قضية مقتله، أخبرت الأقارب الوافدين أن أيام العزاء الثلاث انتهت، فمن أراد البقاء فليفعل، لكن لا يسأل أحد عنها "اديتكم حقكم في الميت أجيب حق الواد بقى"، فاقت الأم من الصدمة وشعرت بمسئوليتها بعد حديث جارهم "أحمد" طالب الفرقة النهائية بكلية الهندسة، حين أخبرها أن عدد المتضامين مع مقتل محمد يقل "والناس كده هتنسى القضية"، فقررت أن تبذل ما استطاعت من قوة ولو لأخر نفس بها، لمعرفة قاتله ومحاكمته.
بين صور محمد التي لا تخلو حيطان المنزل منها، بدت صورة منزوية فوق "النيش"، هي الوحيدة للشاب بين زمرة اللقطات بصحبة والدته، كان في المرحلة الثانوية حين التقطت، إلا أنه لم يلاحظها أو يتحدث عنها، إلا قبل أسبوع فقط من وفاته، أخبر والدته أنها لا تروق له، إذ يبدو أصغر ومختلفا، تعجبت أمه حينها، لكنها قالت إنها ستستبدلها بصور حديثة له مع أخيه، ومع ذلك انتزعها، وصار إطار الصورة فارغا حتى وفاته، لتعيدها الأم إلى مكانها مرة أخرى.
"محمد" قرة عينها، هو الابن الأكبر ويليه محمود، كان صديقًا يحنو عليها، خجول، حتى أنه لا يُقبّل أمه في وجود أحد "يبص يمين وشمال الأول وبعدين يبوسني"، يُقدر ضيق ذات اليد، انفصلت "فاتن" عن والده وهو في الصف الأول الإعدادي، فصارت هي "رجل البيت"، كان محمد يطلب منها شيئا ثم يتراجع "لما يحس إنه مش معايا.. يقولي مثلا عايز بنطلون وجاكيت ويرجع يقولي طب خليه بنطلون بس وهمشي نفسي بالباقي"، تذكر أنها بإحدى المرات أجبرته على شراء حذاء بعد أن قُطع ما يملكه "لولا صاحبه أقنعه مكنش اشترى". كان يكفيه خمسة جنيهات يوميا لمواصلات الطريق للجامعة.
بدأت رحلة الأم مع قضية "محمد"، بالذهاب لمكتب النائب العام، حيث قدّمت شكوى تتهم فيها وزارة الداخلية بقتل ابنها، منذ ذلك الحين، أخذت تبحث وتسأل عن صغائر الأمور، باتت تؤدي دور المحقق، والمحامي في آن واحد. لم يكن ذلك عسيرًا عليها، فقد عملت بمكتب محاماه عام 87 قبل أن يولد محمد "من الخبرة بقيت أعرف اكتب المذكرة والعريضة وغيره".
بعد شهر من الوفاة، اطلعت "فاتن" على فيديوهات مقتل ابنها، حاول أقاربها إخفائها عنها، غير أنها وقفت لهم "هتخبوها عني لحد امتى محمد خلاص مات"، مع مشاهدة المقاطع المصورة للاشتباكات والدقائق السابقة لمقتل الابن، قررت شراء شاشة تلفاز أكبر، وتعلمت التعامل مع برنامج يسمح لها بإيقاف المقاطع بالدقيقة والثانية "كان كتير بيصوروا من مبنى عمارة وبيروحوا يدوا الفيديوهات لعميد الكلية وهو بيبلغني أخدها"، استخرجت مادة تدلل على لحظة إصابة ابنها، ومَن تواجد حوله، والضباط الذين وجهوا أسلحتهم نحو الباب المغلق لكلية هندسة، المتواجد خلفه عدد من الطلبة بينهم "محمد".
عقب مقتل "رضا" بأيام شكّلت جامعة القاهرة، برئاسة دكتور جابر نصار، لجنة تقصي حقائق للبحث في ملابسات ما حدث، وخرج بيان الجامعة قبل ذلك ليدين الشرطة بشكل مباشر. خلال أسابيع استقبلت اللجنة شهادات 87 طالب وطالبة، ضمنهم مصابين بطلقات خرطوش كانوا بجوار "رضا"، غير أن النيابة لم تأخذ بأقوالهم في التحقيقات.
قبل أربعة أيام من الوفاة، أتم "محمد" عامه التاسع عشر، كلما زاد عمرا، ابتسمت والدته فرحة، لاقترابه من أمنيتها له، بأن يصبح مهندسا مرموقا، وترى ذريته. كانت الأم الحاصلة على دبلوم تجارة تمر كثيرًا على جامعة القاهرة، فيهفو قلبها للدراسة بها، قالت لمحمد إنها ترغب أن يدخل كلية الهندسة "يحقق اللي كان نفسي أحققه".
مات "محمد" في اليوم الذي كان يعد فيه أصدقاءه لمفاجئته بحفل عيد ميلاده حال ما يفعله معهم، وقبل أن يرافقهم في الرحلة، التي حجزوا لها مع الكلية ليوم الجمعة، التالي لموعد وفاته، وقبل أن يُقتل الابن بعامين، فتحت الوالدة محل لزيادة الدخل، أسفل المنزل استأجرت مساحة صغيرة، تبيع فيها كروت الشحن، ملابس، عطور وغيرها، كانت تعمل من التاسعة صباحًا حتى العاشرة ليلا "عشان أوفر فلوس الدروس بتاعتهم"، لم تشكُ لأحد ضيق الحال، رددت كثيرا على مسامعه أن يومه الأخير بالكلية، سُتغلق المحل وتبقى بالمنزل، نصحته أن ينضم لقسم له سوق عمل واسع، فاختار الشاب الراحل قسم كهرباء.
لاتزال "فاتن" تحارب، منذ مولد "محمد" وحتى بعد وفاته، بداية بالطب الشرعي "اللي رئيسه زوّر في موت ابني" على حد تعبيرها. فقد خرج رئيس المصلحة السابق، هشام عبد الحميد، بأكثر من لقاء تليفزيوني، ليتحدث عن إصابة الشاب، غير أن شهادته اختلفت في كل مرة على مدار أيام قليلة، ففي البداية أرجع السبب لاختراق الرئتين، ثم إلى إصابته في الشريان الرئوي، وفي المرة الثالثة قال إن سبب الوفاة الإصابة في الشريان الأورطي، حين رأت الوالدة تقرير الطب الشرعي "عرفت إن فيه لعب.. التقرير الأول اللي 1ديسمبر مكتوب بخط إيد هشام عبد الحميد مع إن مش هو المُشرّح".
تهديدات كثيرة تلقتها الأم، خاصة في بداية مشوارها مع القضية، لم يتوقف الهاتف المحمول والأرضي عن المكالمات، المتضمن حديثها "أنت بتروحي هندسة ليه؟ خافي على نفسك، أنت بتاجري كده بدم ابنك..."، غير أن أكثرها تأثيرا كان مكالمة أحد أفراد أمن الدولة، التي قررت على إثرها قطع الذهاب إلى كلية الشاب الراحل.
بعد وفاة "محمد"، اندلعت الاحتجاجات بأرجاء جامعة القاهرة، واعتصم طلاب هندسة القاهرة، واضعين عدة مطالب، بينها الكشف عن مقتل "رضا"، وعلاج زملائهم المصابين، كانت تذهب "فاتن" إلى كلية ابنها، لتجميع الأدلة، غير أن الأمن اعتبرها "محرض" لما يقوم به الطلبة، إذ اتصل بها أحد لواءات أمن الدولة كما تقول "فاتن"، وطالبها بالحضور إلى الكلية، لإقناع الطلبة بالعدول عن موقفهم، وأخبرها أنه قام بالتنسيق مع عميد الكلية، ورغم تشككها بالأمر، إلا أنها وافقت، لكن تداول الإعلام باليوم التالي لخبر بعنوان "والدة الشهيد محمد رضا تقود اعتصام هندسة" بينما هي تجلس بمنزلها، أشعرها أن خطأ ما يجري، وما تلك المكالمة إلا للقبض عليها، وإلصاقها تهمة بمجرد أن تخطو قدمها حرم الكلية، لذلك لم تذهب.
"طبختوها سوا يا ولاد الكلب. أنا ابني مات انهاردة".. وقفت "فاتن" في إحدى الطرقات القريبة من مكتب النائب العام تصرخ، كان رد فعلها تلقائيًا، بعد أن سلموها تقرير النيابة –آخر 2013- الذي أفاد بأن الطلقات أصابت "محمد" من داخل الجامعة، ما ينفي الاتهام عن الشرطة. توعدت الأم المجروحة جميع الواقفين، هددتهم أنها ستأتي بحق ابنها، حتى وإن لم يتحقق ذلك في العاجل القريب.
تفاصيل كثيرة صدمت الأم أثناء عملها على القضية، وحتى حفظها من قبل النيابة مطلع فبراير الماضي لعدم الاستدلال على الفاعل. قدّمت أدلة كثيرة تؤكد أن مقتله كان بيد الشرطة، بين شهود عيان اُصيبوا بطلقات خرطوش ورأوا بأعينهم الضابط يصوب تجاههم، وأدلة أخرى منها حجم الخرطوش الذي تم استخراجه من جسد محمد.
أفادت التحقيقات أن المرآة العاكسة الموجودة داخل هندسة بها طلقة خرطوش حجمها صغير مثل التي أصابت الابن، وذلك يُثبت أنه تلقى الرصاصات من الداخل، غير أن الأم الأربعينية مع محاميها قدّما أدلة –بناء على تقرير المعاينة- أن حجم الخرطوش الذي اُصيب به "محمد" أكبر من خلال مقارنة الطلقتين، وأن زاوية إطلاق الرصاص كما جاء بالفيديو، تسمح للضابط أن يُصيبه في مقتل.
تستنكر الوالدة محاولة تصنيفها، والاتهامات العديدة التي تلحق بها لاستماتها في المطالبة بالكشف ومحاسبة قاتل ابنها، تتساءل كلما هاجمها أحدهم "هو اللي يدور على حق ابنه يبقى خلاص إرهابي، عشان بقول كلمة حق لازم أبقى سيساوية أو إخوانية مينفش أبقى مصرية، مينفعش أخد حق ابني اللي اتاخد في ثانية ؟"، تظل تحكي دون كلل وملل عن صغيرها، تغتنم الفرص لتحكي عن أن أقوالها التي تغيرت في محاضر النيابة، وعرض أحد المحامين الوساطة بينها والشرطة لتحصل على أموال مقابل التوقف عن البحث "يعني حتى مش دية.. دول عايزين يشتروا السكوت".
لم تخلع "فاتن" عنها السواد منذ وفاة "محمد"، بعد شهر من مقتله، لم تكتف بالصور المحيطة بها في المنزل، بل طبعت صورة له على صدر ملابسها، ودونت تحتها وكذلك بظهرها "شهيد كلية الهندسة 28 نوفمبر 2011"، تغسلها ثم ترتديها مرة أخرى، واضعة بها مشبك يحمل أيضا صورة ابنها، تعتبر "فاتن" هذه الملابس، جزء من وسيلتها في مشوار حق فلذة كبدها، فكما يتهكم البعض عليها بالشارع حين رؤية ردائها، تكون سبب في معرفة آخرين بقضيته.
"قضى ربنا هيجيني زي ما جه لابني أنا كنت عايشة عشانه وبعد محمد خلاص" بقوة وثبات تقول "فاتن"، ترى في حفظ القضية، خير أكثر مما توقعته، فبسبب هذا القرار، بدا لها كثير من التجاوزات حسب قولها. تضع الوالدة في حسبانها أسوأ التوقعات، من اعتقال أو تلفيق تهمة، مثل الضغط الواقع على الشهود الثلاثة الرئيسيين بالقضية. تدرك جيدا موقفها، لا تعبأ إن استمرت في المحاكم طيلة 10 سنوات المدة المفتوحة لتداول القضية، باستماتة تقول إنها ستواصل الطرق على الأبواب "ويا أجيب حق ابني يا أموت زيه لأني مش هسكت".
فيديو قد يعجبك: