إعلان

بالصور- من أقصى الصعيد.. 30 في مهمة خاصة للبحث عن حلم "أبو تريكة" (معايشة)

04:21 م الأربعاء 17 أغسطس 2016

كتب- محمد مهدي ومحمد زكريا:
تصوير- علياء عزت:

في ساعة متأخرة من الليل، الظلام يطبق على قرية "الشيخ مكرم" بسوهاج، الأهالي يغطون في النوم، غير أن نحو 30 صبيا من عشاق كرة القدم لم يغمض لهم جفن، جلس كلا منهم بغرفته في انتظار تحقق حلم داعبهم منذ الصغر، "محمد أنور" أصغرهم صاحب الـ 14 عاما، انهمك في إعداد حقيبة ضخمة تحوي صورة "أيمن حفني" لا تتناسب مع جسده الصغير، "مصطفى سعد" استلقي على فراشه وعيناه مشدوهتان ناحية بوستر لـ "عماد متعب" حالما أن يصبح مثله يوما ما، فيما يضع "أحمد ناصر" 18 عاما، أدوات عمله كـ "مبيض محارة" في أحد أركان غرفته، قبل أن يُتمم على وجود أول "تي شيرت" استلمه من فرقته، كتميمة حظٍ في رحلة الأحلام، قبل أن ينتبهوا مع باقي زملائهم لـ "كلاكسات" سيارة "تويوتا" يستقلها الشاب "حسين أحمد" مدرب فرقتهم "نجوم البلد" لينقلهم إلى الإسكندرية والقاهرة بحثًا عن فرصة للعب بأحد الأندية الكبرى ومنها إلى العالمية، غادروا منازلهم محملين بدعوات ذويهم للوصول إلى المبتغى، عبر رحلة وعرة لا تخلو من المصاعب.. مصراوي عايش رحلة أطفال القرية إلى العاصمة ومن المركز الرياضي الصغير هناك إلى رحابة الأندية الكبرى بالقاهرة.

صورة 1

قبل نحو شهرين من السفر، في رمضان الفائت، وقف الكابتن "حسين" على أرضية ملعب نادي سوهاج الرياضي، عيناه معُلقه بلاعبي فرقته، عروقه منفوره بفعل الحماس، صراخاته لا تتوقف أثناء توجيههم في الدورة الرمضانية التي تقام على مستوى المحافظة "باصي لزميلك، بُص قبل ما تشوط على الجون"، ينصتون له، ينفذون تعليماته، تمريراتهم متقنة، تسديداتهم في مرمى الخصم لا تُخطئ، الفوز حليفهم مباراة تلو الأخرى "وصلنا للنهائي. بس خسرنا، لكن قررت إن الشباب دول مستقبلهم كبير ولازم نقدملهم في الأندية الكبيرة".
 
خلال أحد التدريبات التي تلت الدورة الرمضانية، توقف الكابتن "حسين" للحظات، متذكرًا بدايته مع الفرقة، عندما بدأ تكوينها من العَدم، وتجميع أفرادها من أمهر اللاعبين بقريته الصغيرة "كانوا بيلعبوا لوحدهم ومفيش تكتيك ولا لياقة"، الآن يجلس بينهم ليمرر برفقة "شريكه "سعد" فكرتهما عن ضرورة السفر إلى الإسكندرية والقاهرة من أجل التقدم في اختبارات الأندية الكبرى، لعل القدر يمنح أحدهم فرصة ليتحول إلى لاعب محترف، فرحة علت الوجوه، نظرات متبادلة بين الصبية توحي بالكثير، أحلامهم البعيدة تقترب، غير أن تصاريف القدر حملت لهم صعوبات كادت أن تقضي على الفكرة "قولنا للاعيبة اللي شايف وضعه المادي يسمح يجي، سكتوا، حسينا إنه صعب يوفرا فلوس السفر، وفيه ولاد أهلهم رفضوا يسفروهم من أساسه" ذكرها الكابتن "سعد" بأسى.

صورة 2

من الماضي القريب، عاودت ذكريات الفشل في اللعب للأندية الكبيرة، مسؤولي الفرقة "حسين وسعد"، حينما واجها المشاكل ذاتها في طفولتهما، ولم يجدا من يدعمهما "قولنا مش لازم التجربة تتكرر تاني، وهنتكفل احنا بمصاريف السفر والتقديم"، انتهيا من الأزمة الأولى، جمعا مدخراتهما رغم تأنيب المقربين لهما "هتضيعوا تحويشة العُمر"، مرا على منازل اللاعبين لإقناع ذويهم "عرفناهم إننا هنأخد بالنا من ولادهم، وإن ليهم مستقبل كبير في الكورة"، لم يجد حديثهما في بداية الأمر صدى لدى بعض الأسر "أنا مثلًا أبويا وأمي مكنوش موافقين عشان شغلي.. وخوفهم على مستقبلي" قالها مهاجم الفريق "مصطفى" الذي يعمل في السباكة، قبل أن توافق أسرته في النهاية.

رغم تعهد المدربين بتوفير تكاليف سفر اللاعبين، طالبوا الصبية بدفع أية مبالغ مهما كانت بسيطة كي تساعدهم في التجهيز بصورة أفضل للرحلة، في تلك الليلة التي استمع فيها أفراد الفريق لكلمات "الكباتن" انطلق كلا منهم إلى منزله، أو محل عمله للحصول على المال "اشتغلت 3 أيام ورا بعض عشان أجمع فلوس السفر" يحكي "ناصر"، كانت محاولاتهم سريعة خوفًا من مرور الوقت وضياع حلمهم "أعلى واحد فيهم جاب 150 ج، الباقي 100 أو 50" ذكرها "حسين" معتزًا بلاعبيه.

صورة 11

حيرة تملكت "الكباتن" لبعض الوقت، عن وسيلة المواصلات الأفضل التي تَنقلهم إلى الإسكندرية والقاهرة "القطر العادي الولاد هيتبهدلوا معانا، والمميز هنغلب عشان نلاقي حجوزات وهو والسوبر جيت مش مريحين وماديًا صعب"، تداولا اقتراحات عديدة حتى استقرا على تأجير سيارة "تويوتا" مخصصة لـ 14 راكب.

 وفي مساء إحدى الليالي الأولى لأغسطس، استقل 28 لاعبا برفقة الكابتن "حسين" السيارة، فيما تأخر انضمام "سعد" لليوم التالي، تكدسوا فيها "هما أجسامهم صغيرة فمكناش مزنوقين، والعربية الخاصة مريحة، نرتاح وقت ما نحب وتودينا أي مكان"، كانت وجهتهم الأولى عروس البحر المتوسط، للحاق باختبارات نادي حرس الحدود، طول ساعات السفر كان صوت غناء من حناجر مبحوحة يصدر عن السيارة "كنا فرحانين وبنغني شعبي"، فيما ينظر "ناصر" إلى الأسفلت شاردًا "طول الطريق كنت بسأل نفسي لو فشلت هرجع أقول إيه لأبويا وأمي. لازم مضيعش الفرصة، لازم أبقى زي أبوتريكة".
صورة 3

على كورنيش الإسكندرية، تتحرك الـ "تويوتا" في اتجاه "حرس الحدود"، يلتصق الأولاد بزجاج السيارة ينظرون إلى البحر بدهشة وسعادة، يتضاحكون، فيما يطالبهم الكابتن بالتركيز "الرحلة كانت طويلة ومتعبة" وحينما وصلوا إلى النادي المنشود، تقدم "حسين" نحو البوابة، تساءل عن موعد الاختبارات وإمكانية رؤية المدربين للاعبيه "قالولي هات الناس اللي أجسامها كبيرة"، ذهب إلى السيارة وعاد برفقة 3 لاعبين "اختاروا لاعب بس في الأخر.. وقالولي سيبه شهرين نجربه لو عنده إقامة في إسكندرية"، شعر أنه لا طائل من النقاش، غادر المكان سريعًا، انطلقوا في أرجاء المحافظة بحثًا عن مأوى حتى الصباح لكنهم فشلوا "لما لقيت العيال فرهدت مني.. قولت للسواق اطلع على القاهرة نبيت هناك".

قُرب منتصف الليل، وصلوا إلى منطقة الإسعاف بوسط المدينة، رؤوسهم ثقيلة، حركتهم بطيئة، النعاس يغالبهم، لا يعرفون وجهتهم غير أن المدرب كان يعلم إلى أين المطاف "فيه فندق كويس أوي ببات فيه لما باجي مصر"، بجوار محطة جمال عبدالناصر بأمتار قليلة، دلف الفريق من ممر صغير بين المحلات، يصل إلى عمارة تحوي في دورها الثالث فندق بسيط، فوجئ عامل الاستقبال بهذا العدد الكبير، أخبرهم بوجود غرفتين فقط شاغرتين في كلا منهما 5 آسرة "صعب وقتها نروح في أي حتة، بس الراجل الطيب جبلنا 8 مراتب زيادة عشان الكُل ينام، وحاسبنا بـ 25 ج على كل مرتبة أو سرير".

صورة 4

بعد ساعتين من استقرارهم بالفندق، وصل إليهم الكابتن "سعد" برفقة اثنين آخرين من زملائهم، غرقوا في النوم سريعًا "كل 2 على سرير" قبل أن يستيقظوا في صلاة الفجر، كعادتهم، وقفوا صفوف وراء أحدهم، لم ينقشع النوم من أعينهم بَعد، لكن القلب كان منتعشًا حافظًا لأحلامهم التي يدعون بها في سجودهم، ثم عادوا للفراش من جديد، لساعات قليلة، أفاقوا بعدها على صوت "الكباتن"، للاستعداد ليومهم الأول في العاصمة وإجراء الاختبارات بالأندية الكبيرة "عرفنا إن الأهلي والزمالك خلصوا اختبارات فقررنا نروح الترسانة"، بعد إفطار بسيط غادروا الفندق، نزلوا إلى الشارع، هالهم الزحام والضجيج "القاهرة مكان واسع أوي" يذكرها أحد اللاعبين، قبل أن ينطلقوا بسيارة أجرة إلى "الترسانة": "ده نادي كبير وطلع أسماء تقيلة زي أبو تريكة".

صورة 5

بأحد الشوارع في منطقة ميت عقبة، وقف اللاعبون أمام بوابة حديدية وسط أسوار شبه متهالكة يعلوها لافتة "نادي الترسانة الرياضي"، كانت مدخلهم لحلم صاحبهم منذ الصغر، حصلوا على 30 تذكرة سعر الواحدة 20 جنيها، ثم عبروا ممر قصير وصلوا من خلاله إلى أرض الملعب في صفوف يتقدمها مدربيهم، يحاولا شد أزرهم، فيما يلتفت الصغار على جانبي الطريق المزدحم باللاعبين بانبهار، منتظرين السماح لهم بالدلوف لأرض الملعب، يُشير أحد اللاعبين إلى الأرضية الخضراء متسائلا عن جودتها، بينما يتلمس صانع ألعاب الفريق "النجيلة" متعجبًا: كنت متخيل إن الملعب كبير والنجيل طبيعي زي بتاع أوروبا.

صورة 6

"من أول لمسة ولعبة الكابتن قال لكذا لاعب انت على الاختبار النهائي على طول" يسرد "سعد"، فيما يقاطعه حسين "الكباتن عرفوني وبقى يقولولي يا صعيدي لاعيبتك حلوة"، قبل أن يعبر جميع الصبية الاختبار الأول بنجاح، إذا اعتلت الجميع نشوة الانتصار، بعدها قرر "حسين" مكافئتهم "ودتهم مطعم الخديوي في رمسيس، دفعنا 1200 جنيه، أنا كنت مبسوط بيهم، كانوا حلوين جدًا"، قبل أن يخوضوا جولة بشوارع وسط المدينة للاحتفال "اتمشينا في رمسيس، وروحنا الحسين، وعدينا على شارع عبد العزيز اوريهم الأجهزة.. كانت ليلة".
 
بعد انقشاع فرحة الاختبار الأول، علِمّ أبناء الصعيد أن عليهم الانتظار لعدة أيام من أجل الاختبار الثاني، لكن الأموال المُدخرة لرحلتهم لم تكن كافية، مما دفعهم لاتخاذ قرارا بالعودة "قولنا اللي معندوش اختبار يروح ويرجع تاني" رحل أغلبهم، بقى "حسين" برفقة 6 لاعبين للتقدم في نوادي أخرى، حيث خاض 4 لاعبين اختبارات بـ"اتحاد الشرطة" فيما كان النجاح حليف واحد فقط "بس قررنا نركز في الترسانة وبس".
 
لم تخلُ رحلتهم بالقاهرة من المتاعب، فلا ينسى "حسين" ما جرى لهم بمنطقة الإسعاف، أثناء جولة لهم بالمكان، هجم شاب على أحد اللاعبين الصغار، متسائلا "انتوا منين ياض؟" ارتبك الصبي، فاشتدت قبضة الغريب، وكاد أن ينهال عليه بالضرب، قبل أن يتدخل "الكابتن" منقضًا على الشاب المتطاول، دفعه الشاب بعيدًا صارخًا "أنا من المنطقة وهتاكلوا ضرب هنا"، ليرد ابن الصعيد "انت جاي تشد معانا. احنا أصل المرجلة"، ازدحم الناس حولهم، أبعدوهم في محاولة لإنهاء الموقف "وأنا ماشي قولتله احنا مش ناقصين.. مخنا واجع لوحده"، كان يتلفظها متذكرًا دفعهم مئات الجنيهات لأحد الوسطاء من أجل عرض اللاعبين على نادي تابع لشركة خاصة، غير أنهم عوملوا بعدم اهتمام من قِبل المدربين "راحوا قعدوا كام دقيقة ومشوهم والـ 400 ج ضاعت علينا".

صورة 7

مع الاختبار الثاني تضائل عددهم إلى النِصف، ومع قُرب موعد الاختبار الحاسم والأخير، لم تتوقف اتصالات الأهالي بأبنائهم، غير أن ذلك لم يكن كافيا بالنسبة لـمصطفى "من ساعة ما سافرت وأنا حاسس أن في حتة مني ناقصاني"، وفي صباح اليوم المنشود تحرك الجميع من الفندق بينما يغلف السكون الأجواء "طول الطريق بسأل نفسي هلعب إزاي؟، أنا خايف أرجع مكسور الخاطر" يقول "ناصر"، غير أن الأمل في العبور إلى المستقبل بدا يسيطر على الجميع "أنا واثق أني هحقق حلمي وأفرح أهلي" يتمنى "أنور"، ومع الوصول إلى مقر النادي سكن التوتر قلوب اللاعبين، يحاول المدربين مساعدتهم "قولنالهم العبوا وكأنكم في الشارع".

صورة 8
 
في انتظار بدء الاختبار، وقف الفريق لبعض الوقت خارج النادي، يحاولون كسر القلق بالتندر على أمنياتهم قبل شهور بالحصول على ساعة للعب بمركز شباب قريتهم النائية، بينما توقيع عقد بأحد نوادي العاصمة بات على الأعتاب. يتذكر "حسين" كيف كان يؤهل لاعبيه استعدادا لتلك اللحظة بإمكانيات محدودة "كنت بدرب على  أقماع صغيرة.. ونكمل بأطباق بلاستيك"، في الوقت الذي يتمتم لاعبيه بالدعوات "لو نجحت وبقيت لاعيب كبير هبني مستشفى ومدرسة عندنا في القرية" يتحدث "أنور" لأحد مدربيه.

صورة 9
 
على أرض الملعب، اصطف الجميع في ترقب، اليوم اكتمال الحِلم أو انتهاءه، القلق يضرب القلوب، النظرات ذائغة، الشفاه تبتهل بالدعاء، لمن الفوز اليوم؟ لينهي مدربي الناشئين بـ "الترسانة" عذابهم ببدء اللعب، يتفحصونهم بعناية، يتابعونهم عن كثب، حاول أبناء الصعيد إبراز ما لديهم من مهارة لاقتناص الفرصة من بين مئات المنافسين، أقدامهم تتحرك بسرعة، يمررون الكرة بِخفّة "يارب ينجحوا كلهم" يتمنى "حسين"، يلحقه سعد "يارب ما تضيع مجهودنا"، ثم أُعلن انتهاء الاختبار.
 
أمام مدرب الشواكيش يتراص اللاعبين لسماع النتيجة، حُبست الأنفاس، الترقب سيد الموقف، يخفي "الكباتن" خوفهم من فشل أبناء قريتهم، يبتعدا بأنظارهما عن أفراد فرقتهما، قبل أن يُشير مدرب "الترسانة" بيديه نحو "ناصر ومصطفى وأنور" ليستكملوا مشوارهم الكروي مع فريق الناشئين، صيحات سعادة صدرت عنهم "دي بداية المشوار الحقيقي"، سعادة غمرت الفريق كله رغم غصة عدم اختيار الجميع، التفوا حول الفائزين للمباركة والاحتفال، فيما أخبرا "سعد وحسين" أفراد فرقتهما أن المشوار لم ينتهِ بَعد "هنرجع تاني بباقي الفريق  في الاختبارات الشتوية.. احنا مؤمنين بكل اللاعيبة".

صورة 10

فيديو قد يعجبك: