مسرحية "الغريب": انتهاء اسطورة "عاش الملك.. مات الملك"
كتبت-رنا الجميعي:
تحكي الأسطورة الحقيقية عن ملك منتصر، زوجة قاتلة، وعشيق، وسواد ملأ قلب ابنة، ثم انتقام، لكن داخل مسرحية الغريب المأخوذة عن اسطورة أورست ابن الملك أجاممنون، جاءت الحكاية مُختلفة، لتنتصر للناس لا لشهوة القتل، أصبحت الحكاية عن رماد الفقراء والبسطاء الذين نهضوا من مواتهم، لتحيا العنقاء مرة أخرى.
ضمن مهرجان المسرح التجريبي عُرضت مسرحية الغريب على مسرح العرائس بالعتبة، على مدار يومي الأربعاء والخميس الماضيين، الغريب هو أورست أو المُخلّص كما رسمته الحكاية المعروضة، بعدما اغتيل أجاممنون المنتصر على يد زوجته كلتمنسترا، وجاءت بعشيقها ايجسوس ليصعد على عرش أرجوس، وقامت إلكترا ابنة أجاممنون بتهريب أخيها أورست، ليعيش أعوامًا بعيدًا عنها وعن أمه، تلك السنون التي توحشت فيها رغبة الانتقام بداخله، ولتنمو سيرته رويدًا بين الناس،كي يصير داخل أحلامهم وقلوبهم المُخلّص من دهور الحزن والفقر والخرس.
حوّلت الموسيقى وأصوات الكورال (كورال عين شمس) خشبة المسرح إلى ساحة حرب، حيث يظهر أجاممنون ثائرًا، يحشد عتاده وجيشه لدخول الحرب، يعود منتصرًا، ثم تجئ زوجته بشراب الانتصار الذي بثت فيه السُم، انتقامًا منه لقتل ابنتها "ايفيجنيا"، يؤخذ على حين غرة، ويموت الملك، فترتدي الكترا السواد على أبيها، هي تعرف الحقيقة، حيث شاهدت والدتها وعشيقها، وقبل عودة أجاممنون من الحرب، يبتعد أورست عن القصر بتوصية من الكترا، تُعدّه للانتقام الذي تنبأت به.
ولأن الحكاية ليست عن دهاء أصحاب السلطة واستعاناتهم برجال الدين فحسب، بل كان الناس فيها هم العنصر الأصلي، ليس فقط في القصة، ولكن في عماد المسرحية من ديكور أيضًا، حيث استعان المخرج "محمود عبد العزيز" بالممثلين كمكمل للديكور البسيط، فاشتبكت أجساد الرجال لتصنع سور المدينة المرتفع، ولتقوم بعمل مجسم المركب الذي اعتلاه أجاممنون وتبحر به، ولتقف في ثبات كتماثيل الآلهة.
جاءت الأربعة مشاهد الأولى بالمسرحية على لسان الراوي، يحكي عن مدينة أرجوس وملكها أجاممنون، ليوحي الراوي بالملحمة الدائرة على خشبة المسرح، فيما صنعت أجواء الموسيقى المكونة من الإيقاع، الكمان، التشيلو والبيانو، بالإضافة إلى أصوات الكورال المهيبة، الحالة الأسطورية التي تلتف بها الحكاية، بعد ذلك بدأت القصة تتقطع على ألسنة صانعوها، ظهر الشاب الهارب من أسوار المدينة العتيقة، فيما تغنّى الكورال بـ"أرجوس.. يا مدينة البلاء، أرجوس.. يا مدينة الدماء"، لتتضح رويدًا المأساة التي يعيشها أهل أرجوس بعد وفاة أجاممنون، من فقر وبطش الحاكم.
عند أطراف المدينة يبدأ أورست في معرفة تفاصيل ما يعيشه سكان أرجوس، ويتقاطع سيره مع حكايا أهل المدينة التي تترنم بالبؤس الدائم، الشاب الهارب المُحب لبلده وأهلها غير أن "الناس تبدلوا وتحجرت قلوبهم"، والسيدة التي تبحث عن ابنها المفقود، والشحاذة التي صار الشارع بيتها، ومهرج المدينة الذي يُضحك سكان المدينة على أحزانهم.
تلجلج قلب أورست مع حكايات الناس المتناثرة في الطرقات، تزحزح شعور الانتقام بداخله، لم يعد يعرف هل القتل بيده أفضل أم صحوة الناس هو القرار الأصوب، حتى جمعه السجن بشباب المدينة ومهرجها، التقوا جميعهم هناك على يد حراس الملك، الشاب الهارب رجع بعدما قرر العودة، ومهرج المدينة أُلقي في السجن بعدما طعنوه في صدره، لكنه بقى حيًا لدقائق قليلة، ليقدم لهم درسُه الأخير "الناس تنتظر المُخلص، علمًا بأنهم قابع أمام أعينهم، بداخل كل واحد منهم، هو فقط مسجون في سجن مدينة، ومحبوس بين ضلوعهم"، بدا لأورست أن الموت هي رغبة تملأ قلوب أكلها اليأس.
وجد أورست نفسه في حيرة، حينما سأله المسجونون من أنت، قال لهم "أنا الغريب، أنا التائه في دروب مدينتكم، ضللت الطريق حين اعتقدت أني ابصره، واكتشفت مقدار ضعفي، حين وجدت الفقراء والبسطاء ينتظرونني"، ثار فيهم حين رأى خنوعهم واستسلامهم، هبّ فيهم ليقوموا، خافوا من الموت غير أن ايمانه بهم نحّى ضعفهم، فتساءلوا "لماذا ننتظر النهاية، إن كانت النهاية آتية لاريب فلنعجل بها".
تمكّن أورست أن يطوي فصل من الظلام في حياة مدينة ارجوس، ليس كما أرادت أخته الكترا بسيفه، بل بإرادة الناس، تغيّرت الأسطورة اليونانية، تجمعوا كلهم حول أسوار القصر، اقتحموه، وثاروا على ملك طال حنقهم عليه، ليقع أرضًا وسط سيوفهم، قتلوه بيد واحدة تهتف "عاشت أرجوس"، لا "عاش الملك".
فيديو قد يعجبك: