إعلان

من جزيرة فاضل بمصر.. حكايات الجدة الفلسطينية "غِفرة" عن القدس قبل النكبة

04:48 م الخميس 07 ديسمبر 2017

كتبت – نانيس البيلي:

تصوير - ندى عمرو:

قبل أكثر من 70 عامًا، وقفت الجدة الفلسطينية "غِفرة عيادة" وهي بنت 11 ربيعًا، أمام المسجد الأقصى: "كانت الناس راحة تصلي بسلام، وشفت قبة الصخرة متعلقة في الهواء من غير عمدان، ماشاالله كل إشي كان جميل".. الآن تتذكر الجدة التي تعيش في مصر منذ نكبة 1948 هذا المشهد بحزن شديد بعد قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بالقدس عاصمة لإسرائيل رسميًا.

وقتها كانت صخرة بيت المقدس تبدو معلقة في الفضاء، لكن الحقيقة أنها متصلة بجانب الجبل التي هي جزء منه ومتماسكة معه.

الجدة الفلسطينية، التي اقتربت من الـ82 عاما، عاشت منها 69 عاما في "جزيرة فاضل" بالشرقية في مصر، لا تزال تتذكر المشاهد التي رأتها في القدس، فهي محفورة في وجدانها جنبًا إلى جنب مع مشاهد التهجير إلى مصر بعد نكبة 1948، "تركنا أموالنا وديارنا وجينا" تقول بمزيج من الحسرة والألم لمصراوي خلال زيارتنا لها بالتزامن مع إعلان قرار ترامب.

لا أنسى جدران المدينة ورائحة شوارعها.. والمصلون يدخلون للأقصى "بس أنا ما دخلت أصَلي كنت صغيرة"

من بلدتها الصغيرة الواقعة بين مدينتي غزة وبئرالسبع، تقول "غِفرة" التي اقتربت من الـ90 عقداً، إن والدتها اصطحبتها معها إلى القدس للكشف بأحد المستشفيات القريبة من المسجد الأقصى، تحكي - وهي تجلس بين أحفادها بجزيرة فاضل بمحافظة الشرقية – عن زيارتها الأولى والآخيرة للمدينة، تقول بنبرة ما زالت تحتفظ باللكنة الفَلسطينية إنها لا تنسى جدران المدينة العتيقة ورائحة شوارعها وأجراس الكنائس تقرع والمساجد التي تصدح بالآذان بينما المصلون يدخلون إلى الأقصى "بس أنا ما دخلت أصَلي لأني كنت صغيرة، وقفت أتفرج عليه من بره".

واختار السياسيون 15 مايو 1948 لتأريخ بداية النكبة الفلسطينية، ومصطلح النكبة هو الاسم الذي يطلقه الفلسطينيون على تهجيرهم وهدم معظم معالم مجتمعهم السياسية والاقتصادية والحضارية حيث طرد الشعب الفلسطيني من بيته وأرضه وخسر وطنه لصالح، إقامة دولة إسرائيل "الصهيونية".

"صاروا يطخوا في الناس، ما خلوا ولا صغير ولا كبير" تروي الجدة الفلسطينية المشاهد المروعة التي عايشتها في أعقاب قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي، تقول إن الجيش الصهيوني هاجم الفلسطينيين فشرد عدد كبير خارج ديارهم واستشهد البعض ممن تشبثوا بالبقاء داخل منازلهم والدفاع عنها، بينما قررت عائلتها أمام وحشية الاحتلال الفرار والنجاة بأرواحهم على أمل العودة إلى الأرض لاحقًا "جينا وقلنا هنرجع تاني بلادنا بس مش رجعنا" أطلقتها الجدة بتنهيدة قبل أن تطأطي رأسها.

عبر الجمال، ارتحلت من فلسطين عائلة "غِفرة" التي زُفت عَروسا لأحد أقربائها قبل أشهر قليلة من التهجير، تقول إنهم تركوا كل ما يملكون وهاجروا صوب مصر دون أن يعرفوا تحديداً وجهتهم، من رفح الفلسطينية إلى مصر انتقلوا، وخلال رحلتهم الشاقة مروا بعدد من المدن تذكر الجدة منها مدينة القنطرة بالإسماعيلية، وصولاً إلى مركز أبو كبير بالشرقية حيث استقروا إلى الآن وأصبحت "جزيرة فاضل" قرية فلسطينية كاملة يسكنها فلسطينيون "من يوم ما جينا وإحنا في الجزيرة دي".

كصحراء خالية من السكان، كانت القرية التي أصبحت فيما بعد "جزيرة فاضل" في عام 1948 والتي كانت "غِفرة" وقتها بعمر الـ13 ربيعًا "جيناها من وهي فاضية، كلها رملة، كنتي تبصي يمين وشمال تشوفي الدنيا كلها"، تقول الجدة التي غطى اللون الأبيض حدقة عيناها إنهم مكثوا بها ونصبوا عششًا صغيرة "مكنش معانا فلوس خالص"، وتضيف أنهم أنشأوا في السنوات الآخيرة مساكن من الطوب الني والقليل من الطوب الأحمر "قعدنا وخلفنا والعيال كبرت".

لا يزال قلب "غِفرة" معلقًا بفلسطين، رغم مرور تلك العقود وتواري الأمل في العودة للأرض والوطن، ينبض قلبها بذكرياتها في بيتها وبلدها، لا يكف لسانها عن سرد حكايات طفولتها هناك لأبنائها وأحفادها، منها الثوب العربي الذي تتميز به المرأة الفلسطينة، داخل حجرتها الضيقة لا تزال تحتفظ بواحد منه، لدقائق قليلة تغيب داخلها قبل أن تأتي وهي تحمله بإحدى يديها بينما تتكأ بالآخرى على عكاز من جذع الشجر، "ده تطريز يدوي، حاجة زمان مفيش منها، فيه ناس بيشتروه ويصورا بيه أفلام عربي"، تقولها بزهو بينما تحاول ارتدائه بمساعدة حفيدتها "ريحانة".

"البنت في فلسطين مكنش ينفعش توري وشها للرجالة".. تقول بينما تمسك طرف طرحتها وتلفها حول وجهها فلا تظهر غير عيناها "وكنا بنلبس أتواب ونتحزم بحزام في نصه"، وتضيف أنهن اعتدن على ارتداء حلقة بالأنف تعرف بـ"الشنفة". تضحك وتقول "كانت بـ3 صاغ فلسطيني بس". خبرتها في تطريز الثوب الفلسطيني نقلتها الأم إلى بناتها الثلاثة على الرغم من ولادتهم بمصر "بنجيب بكر ونخيط، وتوب الفرح بالذات بيبقى كله مطرز ألوان بيخلي القماش الأسمر اللي فيه مش باين".

بصوت يملؤه الشجن تتذكر "غِفرة" أرضها ببلدتها "كان عندنا أرض في فلسطين وبنزرعها"، تبتسم وتقول إن الأراضي الزراعية بوطنها متفردة ولا تضاهيها أي أراضي آخرى لكونها تروى على مياه الأمطار "نزرع ونسيب الزرع يطلع على روحه من النطرة، الغلة والشعير والفول والعدس.. خلص المطر وطلع الصيف نزرع البطيخ والبصل". وتضيف أنها كانت تباشر مع أهلها تحميل المحصول "كنا بنبيع حمل الجمل عليه 30 بطيخة بـربع جنيه فلسطيني".

"كيف هادا، القدس فلسطينية".. أطلقتها الجدة "غِفرة" بغضب وارتفع صوتها الخفيض فجأة بعدما أخبرناها بقرار الرئيس الأمريكي إعلان المدينة العتيقة عاصمة لإسرائيل، قبل أن تتلعثم وتلتزم بالصمت لثوان، وتشير بصوت حزين إلى أنها كانت تتشبث بانتمائها لوطنها فلسطين رغم أثار القدم الهمجية للاحتلال التي دنست بلادها، وأنها دائمًا ما أيقنت أن "الأرض لهم والقدس لهم".

 

فيديو قد يعجبك: