حرّيفة صناعة "البامبو".. رحلة شابة كفيفة من "حبسة البيت" للحياة العملية
كتبت-دعاء الفولي:
حينما كانت هناء عبدالله في العشرين من عمرها، دخلت والدتها المستشفى بسبب مرض مفاجئ. تعين على الشابة الكفيفة الاعتناء بالمنزل، باتت هي المسئولة داخله، لكن حينما أتى خالها من الصعيد لزيارة الأم، تطوعت الابنة لإرشاده لطريق المستشفى "ساعتها قاللي إزاي واحدة ضريرة توديني"، ابتلعت هناء الإهانة، ونفّذت وعدها "بقى يقول إن هناء هي اللي وصلتني"، من وقتها كُسر الحاجز الذي بنته العائلة حولها، انطلقت الشابة تخوض الحياة التي تابعتها من خلف جدار منزلها.
في ساحة المعهد الفرنسي بمنطقة المنيرة بالقاهرة، جلست هناء قبالة نبات البامبو، تُشكله ليصبح وعاءً عميقا لحفظ الأشياء، تضع النبات في دلو من الماء بجانبها ثم تلفه بشكل دائري لتتشابك الأعواد سويا، تعمل بصبر وعلى وجهها ابتسامة، يمر عليها المترددون على المعهد، يلتقطون معها الصور، أو يشاهدونها وهي تتقن صنعتها، فصاحبة التسعة وثلاثين عاما تُدرب الفتيات في جمعية النور والأمل على صناعة البامبو منذ عشر سنوات.
رفضت هناء دائما أن يمنعها فقدان البصر عن العالم، لذا وفي عُمر الرابعة عشر أخبرها شقيقها عن جمعية تُساعد المكفوفين لتعلم حرف مختلفة "بقيت أروح هناك وآخد تدريب"، لأكثر من عام ظلت تتمرن على شتى أنواع الحرف "بس في النهاية اخترت البامبو.. حبيته وحسيت إن فيه فن"، وبالتوازي حصلت على شهادة محو الأمية "مكنتش كملت تعليم عشان بتضايق من طريقة برايل بس في الجمعية علموهالي بطريقة كويسة".
تعودت هناء أن تواجه العالم بطريقتها، يخبرها أحدهم أن إتقانها "صنعة" أمرا صعبا فتتقنها، يُعاملها آخر بشفقة فُتصر على الحركة بمفردها، لكن تقبل الأمر لم يكن يسيرا في المنزل، فمرافقة أحد أفراد أسرتها لها كان حتميا "فضلت سنين بقولهم سيبوني أتحرك بحرية وأجرب واتخبط، لو مجربتش مش هتعلم"، غير أن الاستجابة أتت بعد مواقف عدة، آخرها حينما اصطحبت خالها للمستشفى "من ساعتها مبقاش حد يخاف عليا زي الأول".
داخل الجمعية تقضي هناء معظم أوقاتها، تعمل من التاسعة صباحا حتى الثالثة مساءً. منذ ستة أعوام انفتح لها بابا سحريا "أستاذ محمد عبد الفتاح بيعملنا كمكفوفين نتعامل مع الموبايل والكمبيوتر"، أحبت صانعة البامبو الأمر، استغلته لتتقن القراءة والكتابة عن طريق البرامج الصوتية، تعلمت التعامل مع الإنترنت "بدأت أشوف الدنيا بشكل مختلف، الموبايل بقى هو صديقي"، غير أن ذلك لم يمنع نظرات التعجب من البعض.
تتذكر هناء حينما كانت جالسة جوار والدتها في مترو الأنفاق تعبث بهاتفها "لقيت ماما بتقولي شيلي الموبايل الناس بتتفرج عليكي"، لم تعبأ الشابة "بس ماما قالتلي فيه مجموعة شباب جايين ناحيتك"، ظنت الأم أنهم سيسخرون منها، لكنهم سألوها عن كيفية استخدامها له "الصوت دة بييجي منين؟ طب بتعرفي تخشي على الإنترنت؟"، تحول الأمر لحلقة علم، التفوا حولها لتشرح لهم "قولتلهم يعني إيه أندرويد وهارد وبروسيسور"، حتى قال لها أحدهم "ده أنا اللي اسمي شاب مش بفهم في الحاجات دي".
الخروج للشارع ليس بسيطا، ففضلا عن عدم صلاحيتها لحركة ذوي القدرات الخاصة، مازال كثيرين ممن تقابلهم هناء يعاملونها بشكل خاص أو "بحساسية مبالغ فيها تجاهنا، كأن الكفيف ده طفل صغير أو معندوش عقل يفكر بيه"، لذلك حرصت ابنة جمعية النور والأمل على التطوع في جمعيات أخرى لمساعدة زملائها، ترك ذلك علامة في بعضهم كالأطفال الذين اصطحبتهم لجمعية رسالة للمرة الأولى منذ خمسة أعوام "كانوا في سن إعدادية بس متعلموش"، حالة من القلق بدت على أولياء أمورهم "مكانوش فاهمين إزاي أنا هوديهم الجمعية وأشتريلهم كتب برايل كمان"، لكن النتيجة كانت مذهلة "ولحد دلوقتي بتواصل معاهم وبنسأل على بعض".
بين عائلتها، باتت هناء في مكانة مختلفة "بيقولوا لي انتي مغامرة". تفخر متحدية الإعاقة بذلك، وتطمح للمزيد "زي إني أكمل التعليم النظامي من خلال التابلت زي ما سمعت"، كما تأمل أن يتم تفعيل نسبة الـ5% الخاصة بذوي القدرات بشكل أكبر، فيما تُشجع الفتيات اللاتي تُدربهن على الخروج "مش منطقي حد يعيش ويموت جوة بيته.. بقولهم يتعرفوا على الحياة بنفسهم".
فيديو قد يعجبك: