معايشة- يوم رحل "أحمد خالد توفيق".. الشباب يودعون "بطلهم الأسطوري"
معايشة- رنا الجميعي:
ليلة قضاها الجميع في ذهول، لا أحد يصدق خبر رحيل من منح لقب الأب الروحي، أجيال كاملة من الشباب انقصم ظهرها، توالت الهزائم التي توجت بوفاة الكاتب أحمد خالد توفيق.
جاء الجميع اليوم لإلقاء النظرة الأخيرة عليه، من فتح لأطفال يعبرون إلى المراهقة عوالم جديدة، مع آذان الظهر بمسجد السلام بمدينة طنطا كان مُصلى الرجال والسيدات قد اكتمل عدده، فيما انتظر عدد آخر عند الكورنيش أمام المسجد.
رحل خالد توفيق عن عمر يناهز الـ55 سنة، واتته إحدى الأزمات الصحية التي لم تكن جديدة على قلب عنيد، إلا أنه رفع الراية البيضاء هذه المرة، وترك وراءه تلاميذ وقراء أثقل قلوبهم رحيل من يتعكزون عليهم في هذه الحياة.
داخل مصلى السيدات ارتفع صوت النهنهات، وهمسات مرتلات القرآن، الوجوه مذهولة كأن على رؤوسها الطير، لا ينبث أحد بكلمة، بينما تلقي بعض الفتيات النظر إلى مصلى الرجال، واستفهامات خجولة تتردد "هو جه؟"، كان الكفن البني موضوع على جمب، ينتظر الصلاة عليه.
كان توفيق من أوائل من اتجهوا في الكتابة لفئة المراهقين والشباب، بدأها بسلسلة "ماوراء الطبيعة"، ثم "فانتازيا" و"سافاري"، بعدها كتب مقالات الرأي ليتسع عدد محبيه، وقد كتب في صحف عدة؛ بينها الدستور، التحرير واليوم الجديد، ومواقع كثيرة منها "إضاءات" و"بص وطول"، كما كان له عدد من الروايات من أشهرها "يوتوبيا".
من بين المحبين قدم محمود العجمي، لا ينسى فضل توفيق عليه، هو القارئ له وقتما لم يكن هناك فيسبوك ولا مجموعات "الفانز"، يقرأ العجمي مؤلفات توفيق منذ عام 1992، يثير الشاب ذو الأربعة وثلاثين عامًا الحشود الموجودة، يقول "دول شباب عاديين"، يلفت نظره عدم وجود للمشاهير.
المشهد الذي يعيشه العجمي ذكره بمنظر مشابه حصل منذ زمن "من سنين مشفتش عينة الشباب دي، دول شباب نزلوا من بيتهم على هنا"، يسترجع الشاب "قبل 25 يناير في صيف 2010 وقف الشباب لما مات خالد سعيد"، حينها اصطف كورنيش النيل بشباب مرتدين السواد.
امتلأ مصلى السيدات بفتيات في عمر العشرين، بينما يعد الكبار على الأصابع، بدأت الصلاة واصطف الجميع، يكبرون ثلاث ويصلون على النبي ويدعون للرجل الساخر الذي لم يترك شئ الا وقد سخر منه، حتى نفسه، إلا أن لحظة وداعه اشتدت دراميتها؛ بعد انتهاء صلاة الجنازة تلقي فتاة نظرة أخيرة نحو الكفن المستقر بمصلى الرجال، يبتل وجهها بالدموع مودعة إياه "مع السلامة".
منذ أربعة أعوام نعى المحبون وفاة رفعت اسماعيل، بطل سلسلته الأشهر "ما وراء الطبيعة"، على موقع الفيسبوك، لكنهم لم يصدقوا أنهم سينعون المؤلف نفسه بعد سنوات قليلة. احتشد الجميع بعد الصلاة أمام المسجد، فاض عددهم، ليمتلأ بهم سلم المسجد العريض، وسور كورنيش النيل المقابل، والطريق الذي ازدحم بالسيارات، تمر سيدة سائقة بجوار الحشد، تسأل "هو مين ده، هو فاد البلد يعني؟"، فيجيبها أحد المحبين قائلا "فاد البلد بعلمه".
كانت هناك صلة روحية تربط بين محبي كتابات توفيق، حيث بدأ ولائهم له منذ الصغر، فتحوا أعينهم للدنيا فوجدوا رجل كبير السن عليل يطارد الأشباح والأساطير، وجدوا فتاة لا ميزة فيها سوى عقل يثير فيه الخيال أزمنة قديمة من دول العالم كلها، وجدوا طبيب يسافر لأدغال أفريقيا يعالج المرضى ويكتب مغامراته.
أكثر من 200 شخص ساروا في صمت مهيب خلف سيارة تحمل الجثمان، مسيرة جنائزية تمشي في منتصف الطريق، لتعبر البحر متجهة إلى مدافن قحافة، البعض حفظ تلك اللحظة بتصويرها، وآخرين مشوا في صمت يوسعون الخطى للحاق بالجثمان.
مدة تناهز النصف ساعة سار خلالها الشباب حتى المقابر، وعبر مدافن الغفران الجديد دخل الجثمان إلى مثواه الأخير، كذلك امتلأت الساحة، في حين وارى التراب العراب بمدفن العائلة.
الوجوه واجمة، فيما اشتدت حمية الشمس على الرؤوس، وبدأ الشيخ بالدعاء لتوفيق بالرحمة والمغفرة، وتعالت الأصوات مؤمنة.
ظل الجميع يتوافد على المدافن في ركنه الصغير الذي لم يتسع لهؤلاء الأحباب، يقبل بعض، ويدبر آخرون، في تبادل بينهم، ليدعون كل له على حدة، من تمسك الهاتف تقرأ له الأدعية، ومن يتحسس الحجر، ورغم مرور الوقت إلا أن هناك من ظل بجوار المدفن يضع رأسه عليه رافضًا المغادرة.
على بعد خطوات جلس كريم حسين، جاء خصيصًا من الإسماعيلية لوداع العراب، قدم الشاب برفقة أصدقائه الذين كانوا السبب في معرفته لخالد توفيق.
يحب حسين الكاتب لأسباب عدة إلا أن أبرزها أنه رفيق له في مهنة الطب، حيث لا يزال يدرس الشاب ذو الأربعة وعشرين، ترك محاضراته اليوم ليودع توفيق، فقد تعود على ملاقاته دومًا "كل ندوة أو حفل توقيعيتم الإعلان عنها بحضرها"، يتذكر الشاب المرة الأخيرة التي اعتذر فيها توفيق "كان عنده حفل توقيع في معرض الكتاب واعتذر عشان الأزمة الصحية"، يبتسم حسين فيما يشغل باله سخرية القدر "واهو إحنا جايين عشانه كمان المرادي".
فيديو قد يعجبك: