لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

النوم سرقة في "قطر الشقيانين".. حكايات ركاب الشبكة المزنوقين وسط الشنط

03:02 م الإثنين 18 يونيو 2018

قطر الشقيانين

كتبت- نانيس البيلي:

في مساحة ضيقة لا يتجاوز عرضها 60 سنتيمترا، يغُطون في نَوم عَميق، يَهتز القطار يمينًا ويساراً، تُدوي صافراته من وقت لآخر، تَتعالى أصوات الركاب من أسفلهم، بينما هم لا يعبأون بكل ذلك، المهم أن يَختلسوا وقتًا للنوم لحين بلوغ محطة الوصول. مكانهم معروف، لا يجلسون على المقاعد، ولا يقفون في طرقات عربات القطار، لكنهم يستلقون على الشبكة المُخصصة لوضع الحقائب، يزيحون "الشيل" و"تعب العمل" قليلاً ليظفروا بوقت للنوم.

أحيانا يَتأفف بعض الجالسين في الأسفل، وربما يَتَبَرم البعض متمتمًا بكلمات غاضبة، فيما يكتفي آخرون بالمشاهدة، غير أن "المزنوقين مكان الشنط" باتوا شريحة أساسية من بين ركاب قطارات الغلابة.. "مصراوي" عايش معهم رحلة في قطار (المنصورة- القاهرة) الذي ينطلق في تمام السادسة والنصف صباحًا، ويصل بعد حوالي ساعتين ونصف.

1

افتَرش "هشام الشرقاوي" سجادة صلاة وضعها على شَبكة عربة بالقطار، اعتاد أن يستقلها من محطة المنصورة منذ 3 سنوات، ثم استلقى تأهبًا للنوم، بات الأمر طقسًا ثابتًا لديه، لا يملك صاحب الـ47 عاما الذي يعمل في شركة بالقاهرة بديلاً عنه، "لأن الفترة دي الواحد بيحتاج ينام شوية في القطر عشان يروح الشغل مركز".

في بادئ الأمر، لم يعرف "هشام" كيف ينام في مساحة الشبكة الضيقة، وبعد عدة مرات فَطن للطريقة "دي بتيجي بالتمرين، باظبط نفسي على وضع معين عشان ما قعش"، يضحك ويقول إن النوم سلطان إذا غلب الشخص "أنا اتعودت على النوم عليها لأن لو معملتش كده مش هعرف أكمل شغل".

وسادة رأس وفوطة وغطاء.. سلاح ركاب شبكة الشنط

2

يَتَسلح الرجل الأربعيني بأدوات تُمكنه من النوم على الشبكة، طوال الرحلة التي تستغرق ساعتين ونصفا، يضعها في حقيبة صغيرة لا ينتقل بدونها، أولها سجادة صلاة "ودي باستخدمها للصلاة في الشركة وللنوم عَ الشبكة في القطر"، فوطة كوسادة للرأس "بطبقها جوه الشنطة تبقى مخدة، وبمسح بيها العرق في الحر".

الشتاء هو أصعب وقت يمُر على سُكان شبكة الحقائب "لأن القطر بيبقى ثلج فوق مش أي حد يستحمله، وكمان الشبابيك مكسرة فالدنيا برد موت، والهدوم ما بدفيش" يقول "هشام"، لذلك يُضيف هو وجيرانه أداة أخرى، "لازم غطا عشان مبنستحملش السقعة"، وفي حين يُحضر البعض دفايات قطنية كغطاء، يكتفي هو بمشمع "استغطى بيه ويحجز الهواء عن جسمي".

ما إن يتوقف القطار في المحطات، يَصعد (رُكاب الشبكة) بخُطوات مُتسارعة، أبصارهم شَاخصة صَوب شَبكة وَضع الحقائب المُمتدة بطول العربات، يبتسم ثغرهم في حالة خلو مكان بالشبكة، وإذا ملأته الحقائب، فلا بأس سنتدبر الأمر، يزيحونها قليلاً، ولا داعي لتمديد الأرجل عن آخرها، الهدف أن تستلقي الأبدان.

بالسهل الممتنع، يصعدون إلى الشبكة في ثوانيَ معدودة، من امتلك مهارة بدنية يتسلق سنادات المقاعد، ومن لم يستطع يَطلب من أحد الجالسين أن يَسمح له باعتلاء مقعده للصعود إلى الأعلى.

ركاب شبكة القطار ازدادوا بعد ثورة يناير

5

اعتلاء بعض الركاب لشبكة الحقائب يعود إلى عدة أعوام خَلت، بينما ازداد عددهم بعد ثورة 25 يناير، بحسب ما يقول "متولي الشربيني"، كمسري القطار الذي يعمل في هيئة السكة الحديد قبل 35 عاما "قبل كده مكنش العدد ده يجرؤ يطلع فوق".

قبل سنوات، كان "هشام" يعمل في وظيفة مستقرة بشركة كيماويات في مدينة المنصورة، حتى طالتها الأزمة الاقتصادية بعد ثورة 25 يناير، عقب ذلك تغيرت دفة حياة الرجل، تنقل بين عدد من شركات القطاع الخاص، وفي سبيل الإنفاق على ابنه الذي يدرس بكلية الطب وابنته طالبة الثانوية العامة، لم يجد بداً من البحث عن الرزق في العاصمة.

حاليًا يسافر الموظف الأربعيني لشركته في القاهرة ثلاثة أيام في الأسبوع "ممكن تزيد حسب ضغط الشغل"، قبل شهور كان يعمل يوميًا، ويدفع متوسط 700 جنيه شهريًا للمواصلات تشمل تذكرة القطار وانتقالات داخلية، بينما يحصل على مرتب 3 آلاف جنيه.

6

في محطة قطار المحلة الكبرى بدأت أعداد الركاب في التزايد، صعدت مجموعة واتخذت مكانها وقوفًا بعدما أصبحت كل المقاعد شاغرة، كما امتلأت الشبكة.

"سيب الشنطة، قولي عايز تعمل إيه وأنا هعملهولك" قالها أحد الواقفين لراكب اعتلى الشبكة وأخذ يبعد الحقيبة ليجد مكانًا لنومه، فكشف الأخير عن رغبته في مساحة إضافية تسعه، فأزاحها صاحبها قليلاً متسائلاً "تكفيك دي؟" قبل أن يدير رأسه عنه بغضب.

هل يدفع ركاب الشبكة ثمن التذكرة؟

أخرج "هشام" تذكرة من جيب بنطاله وأظهرها للكمسري، الذي أشر عليها بالقلم الجاف، يقول إنه اعتاد أن يقطع التذكرة من محطة المنصورة نفسها "مبستناش الكمسري ييجي أصلاً، جه أو ما جاش التذكرة بتبقى معايا".

وفي حين يلجأ بعض ركاب الشبكة إلى حيلة للهروب من دفع ثمن التذكرة خلال مرور الكمسري بادعائهم النوم، بحسب "محمد"، بينما يعلم "متولي" كمسري القطار تلك الحيل جيداً بحكم خبرته، ويحرص على تحصيل ثمن تذكرته "بدفعهم، حتى لو نايم بصحيه وأدفعه".

7

ما يقرب من نصف مليون راكب يستقلون قطارات السكك الحديدية بوجهيها البحري والقبلي بشكل يومي ذهابًا وإيابًا، ومتوسط عدد ركاب القطارات في الأسبوع الواحد هو 5.3 مليون تقريبًا، بحسب تصريحات صحفية للمهندس مدحت شوشة، الرئيس السابق لهيئة السكة الحديد.

لا يرتبط صعود "هشام" إلى الشبكة بخلو المقاعد أو بكونها شاغرة، فالرجل الأربعيني يصعد من محطة المنصورة قاصداً مبتغاه "حتى لو الكراسي فاضية بطلع بردو أنام فوق عشان أرتاح"، ويوضح أنه يستقل عربات القطار التي تكون لون شبكتها زرقاء "لأن فيه عربيات الشبكة بتاعتها لونها لبني، دي بيبقى فيها حاجز في النص مبنعرفش ننام فيها".

8

وأعلنت هيئة السكة الحديد توفير 169 ألف مقعد إضافية خلال الفترة من 10 يونيو إلى 26 يونيو لاستيعاب الركاب خلال إجازة عيد الفطر.

شبكة الحقائب هي الملاذ الذي يلجأ إليه ابن الـ17 عامًا ليحصل على قسط قليل من راحة البدن، خلال رحلة القطار التي تستغرق حوالي 50 دقيقة من بلده، يقول إنه يعمل شيفا في أحد فنادق القاهرة لـ11 ساعة يوميًا، لذلك لا ينام ساعات كافية بمنزله "فببقى تعبان أوي، والنص ساعة اللي هنامها ع الشبكة هتفرق معايا في الشغل عشان أبقى فايق، لأني شغلي كله وأنا واقف فلازم ما يبقاش فيه غلطة".

وإذا لم يجد "محمد" مكانًا خاليًا على الشبكة، يغادر القطار فوراً مفضلاً انتظار القطار التالي "عشان مش هينفع أقف طول الطريق"، بعكس "هشام" الذي غالبًا ما يظل واقفًا خلال عودته من القاهرة في قطار 5 عصراً "بنفضل مسافة طويلة واقفين لأن القطر ما بيكفيش وبيكون زحمة"، فهو لا يملك رفاهية انتظار القطار القادم بعد ساعتين ونصف.

4 copy

رغم ذلك، يرى "محمد" أن القطار أهون عليه من دفع 7 جنيهات ونصف ثمن تعريفة سيارة ميكروباص من بلده للقاهرة "غالية عليا أوي بصراحة".

مرة واحدة فقط، اضطر خلالها "محمد" أن يستقل الميكروباص طوال العام الماضي عندما تعطل القطار لفترة طويلة "هعمل إيه يعني، مش هنروح الشغل"، ويحصل "محمد" على راتب شهري 2600 جنيه، ينفق حوالي 20 جنيها يوميًا مواصلات ولوازم أخرى "ممكن أجيب كيس شيبسي أو علبة عصير".

مشاجرات بين "الناس اللي فوق والناس اللي تحت"

مشاجرات ومشادات كلامية قد تحدث أحيانًا بين الركاب الجالسين على الكراس، والراغبين في الصعود للأعلى "فيه ناس مبتقبلش حد ينام فوق عَ الشبكة مكان الشنط"، وفق ما يقول "هشام"، غير أن معظم الغاضبين يهدأون سريعًا "الناس بتسكت لأنهم بيبقوا عارف إنه هيطلع حتى لو عمل مشكلة، مفيش حد بينزل حد"، يُبرر الرجل موقفه "أصل مفيش حد هيستحمل يفضل ساعتين أو 3 ساعات واقف وفيه فوق مكان فاضي".

لا يزال "محمد" يتذكر المشادة التي حدثت بين راكبين عندما استقل أحدهما القطار من محطة بمنتصف الخط ولم يجد مكانًا لحقيبته على الشبكة، فوضعها بدون قصد على أقدام رجل نائم بالقرب من باب العربة، "قام يزعق ويقوله مش تاخد بالك، فالتاني قاله الشبكة دي للشنط مش للنوم، فرد عليه ما الناس كلها نايمة أهي جت عليا أنا.. وشدوا مع بعض".

9

"معلش يا هووو والله ما قادر أقف، الصيام مبهدلني".. قالها أحد ركاب الشبكة بعدما استقل القطار من محطة بنها وهمٌ باتخاذ موضعه على شبكة الحقائب، قبل أن يداعب صديقه ليخبره عن مكانه: "أنا جنبك في الشقة التانية"، من أسفل نظرت إليهما سيدة ثلاثينية تحمل طفلتها وقالت "يالهوي أحسن البتاعة دي تقع فوق دماغنا" ليكتفي الركاب بالضحك.

بحسب الكمسري المُخضرم، فإن متانة الشبكة تمكنها من تحمل أوزان الركاب الذين يصعدون عليها "مش ممكن الشبكة تتكسر، لأنها قوية وتستحمل الوزن"، ورغم معرفته بأنها مخصصة فقط لحمل "الشيل": "بس بقى متقدريش تنزلي واحد من اللي بيطلع فوق".

3

يتخوف ركاب القطار وخاصةً "ركاب الشبكة" من زيادة سعر التذكرة، فرغم الازدحام الشديد إلا أنهم لا يملكون رفاهية دفع تعريفة المواصلات التي قد تصل إلى أكثر من الضعف. وكانت أنباء ترددت في أوائل العام الجاري حول قرارات زيادة مرتقبة في أسعار تذاكر القطارات، وبحسب ما نشرته وسائل إعلام فإن زيادة تذاكر القطارات المطورة العادية ستكون بنسبة 140% وزيادة تذاكر القطارات المميزة العادية تبلغ نسبة 150.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان