في حي الزبالين.. إعادة التدوير "فن ومدرسة"
كتبت- شروق غنيم وإشراق أحمد:
تصوير-شروق غنيم
قبل 16 عامًا، كانت أحوال حي الزبالين بالقاهرة تسير كعهدها؛ الأجيال المتعاقبة تتوارث مهنة الأجداد، تدوير القمامة وفرزها، غير أن جمعية روح الشباب لخدمة البيئة فكرت بشكل مختلف، أرادت أن تُشكل فارقًا في حياة أطفال المكان، أن تُعيد تدوير مستقبل الصغار، فكانت مدرسة إعادة التدوير.
عام 2004 أُنشئت المدرسة، باتت ملاذًا لأطفال المكان، يحتضن قدرات مكوّرة بداخلهم، حتى أن أهاليهم لم يعتقدوا أن صغارهم بإمكانهم يومًا ما أن يقفوا على خشبة المسرح، أو أن يصنعوا عرائس متحركة من القمامة التي تُعّد مصدر رزقهم الأساسي.
حين بدأت المدرسة كان أطفال كثر مُتسربين من التعليم، كما تحكي "مي عامر" مديرة المدرسة الحالية "لأن وجود الطفل في البيت معناه فلوس للأب فمش مهم المدرسة، في النهاية هيطلع يشتغل نفس الشغلانة"، كان ذلك هو التحدي الذي ينتظر أصحاب المشروع "إحنا في حي مجالات الشغل فيه مش متعددة، وكان نفسنا الأطفال يلاقو نفسهم بشكل مختلف عن المجتمع اللي بيخليه بيعيد إنتاج الشخص".
حالياً كأن لا مكان لطفل غير في المدرسة، الشوارع خالية إلا من الكبار والهدوء يسيطر رغم العمل المتواصل، فيما تدب أقدام الصغار بكل ركن في المكان بمجرد أن ينفتح باب "إعادة التدوير"، وتزيد الحركة في جانب الورشة، التي لم تفلح محاولات المعلمين في تحجيم وجود المشاركين فيها بتجميعهم في غرفة "الكمبيوتر" ذات الأبواب، لينقلوهم مرة أخرى خارجها إلى الساحة الأوسع حيث الطاولات المتعددة.
الفن هو مدخل المدرسة إلى نفس الأطفال، والمساحة التي يستطيعون التعبير عنها "كنا مهتمين بكل أنواع الفنون المرتبطة بالمجتمع اللي عايشين فيه، إحنا مش عاوزينهم في النهاية يحبوه أو يكرهوه، لكن على الأقل يعبروا عن نفسهم وهما جواه".
أعّدت المدرسة مجموعة من الورش الفنية، لكن للمكان خصوصيته في الحكايات، إذا كان عرض مسرحي فإن الأبطال يمثلون حي الزبالين "ومتبقاش القصة شبه حي تاني"، لكن منذ شهر فكر أعضاء المدرسة في مشروع جديد يُخرج طاقة الأطفال، يدفعهم للتفكير بشكل مختلف تجاه مهنتهم.
تنفيذًا لرؤيتهم عن أطفال المكان الذين يعمل كثير منهم في فرز القمامة، أطلقوا ورشة لصناعة عرائس الماريونت من خلال النفايات، أن تُحوّل "جركن" أو زجاجة شامبو فارغة إلى جسد عروسة متحركة، وملاعق أخرجت توًا من شنطة قمامة إلى عيون، كان بمثابة السحر بالنسبة للأطفال.
الحماس موزع هنا بين الأطفال ومعلمهم شاكر سعيد، يعرف كيف يتعامل مع الصغار، يقلد لهجتهم الصعيدية، يمسك بزمام شقاوتهم، يخبرهم أن يجربوا لعبة معًا فيستجيبون له، يلينون بين يديه كالماء، إذ له خبرة في التعامل مع الأطفال وكيفية تصنيع عرائس متحركة من القمامة، فكان الأمثل لتلك المهمة.
منذ اللحظة الأولى لبدء الورشة، تتوق عيون وأيدي الأولاد لعمل العرائس، لكن "مستر شاكر" يهدئ من طاقتهم، يخبرهم أنه قبل العمل يلزم المعرفة بما هم مقبلين عليه "محتاجين نعرف ايه القصة عشان نشوف هنعمل كام عروسة، وايه العرايس اللي هنعملها ولاد قد ايه وبنات قد ايه"، يعقل الصغار الكلمات فيتمهلون.
في نفس واحد، يداوم صغار الورشة طرح الأسئلة وما يؤرقهم بشأن مشاركتهم جميعًا، وكيفية اختيار العرائس، فيوضح المعلم أن المسرحية ستكون اثنين كي لا يفقدوا أحد، وإن شاءوا أطلقوا لخيالهم العنان فكتبوا، أو حكوا له ما أرادوا أن يمثلوه من قصص.
يمضي "مستر شاكر" بين ثلاث طاولات موجهًا، يخبر هذه أن تدق جيدا "الفوم" في العبوة البلاستيكية، وذاك أن يقطع البلاستيك، ويزيد على صغيرة ثالثة أن تعيد التفكير في قرارها تجاه الألوان المختارة.
خطوة بخطوة تسير أيدي الصغار مع مدربهم، تمسك منيرفا بعلبة مسحوق، بدلت معالمها بوضع عينان وأنف وفم، أنهت ذات العشرة أعوام رأس عروستها، فهرولت سريعًا إلى "ميس مي"، وأخذت تدور بها على كل مَن في المدرسة قائلة بابتسامة عريضة "أنا اللي عملتها".
لم تكن تلك العروسة التي توشك منيرفا على إتمامها الأولى هي التي تملكها الفتاة، لكن قلبها انشرح بها "كل العرايس اللي عندي أخواتي بيكسروها"، لذلك كان لهذه الدمية مكانة خاصة في قلبها، إذ وجدت ما يضمن بقائها سليمة.
تسعد منيرفا بالإجازة أكثر من الدراسة، ففيها فرصة أكبر للبقاء طويلاً في مدرسة إعادة التدوير "بنتعلم حاجات حلوة، إزاي نحول حاجة وحشة لحاجة شكلها حلو، إزاي نخلي مكانا أحسن ونحافظ على البيئة".. تقولها الصغيرة بينما تمعن النظر فيما صنعت يداها.
رغم اعتياد شاكر على تقديم ذاك النوع من الورش الفنية، إلا أن شيئًا مختلفًا وجده في أطفال حي الزبالين، "هنا لما فردت موضوع الجراكن والغطيان هما متعودين على المنظر ده، لكن لما بحطها في أماكن تانية بيستغربوها".
حتى مديرة المدرسة كان للمكان أثراً داخلها، أعادت التفكير في شنطة النفايات التي تلقي بها كل صباح "بقيت عارفة مصير الشنطة دي فين، وإن كل سلوك فيها مرتبط بحياة بني آدم تاني هيفرز الزبالة، زي إني ألف الحقنة في منديل فأضمن إن مفيش طفل هيتأذي، أو أسيب شوية شامبو في الإزازة فتتبسط بنت بريحته".
بخطى تعلم تفاصيل المكان، دخلت أم منيرفا "من الساعة 9 الصبح لغاية بليل يقعدوا هنا لأن المدرسة قصاد بيتنا ولما أعوز حاجة أجي لهم"، كانت السيدة الثلاثينية تريد ابنتها الكبرى "ماري" لقضاء حاجة للمنزل. لا تسأم الأم من المشوار، الفرحة التي تراها بأعين أبنائها تهون عليها تكرار التردد، فضلاً عن اطمئنانها لوجودهم بالمكان طيلة فترة عملها.
لمست الأم تغيير أبنائها منذ عرفت أقدامهم طريقها إلى المدرسة "بقوا يجوا يدوروا على العلب والأزايز ويعملوا بيها الحاجات اللي بيتعلموها في المدرسة"، أحيانًا تلتفت إليهم السيدة، وكثيرًا ما تغفل حديثهم بحكم الإرهاق، لكنها أبدا ما تضيع حفلة يشاركون فيها، تقتسم معهم سعادة فعل شيء يختلف عن حياتهم التي لا تخرج عن الدراسة والعمل في القمامة بأوقات الفراغ.
أمام إحدى الطاولات كانت جومانة تفكر في اسم لعروستها الجديدة، لتنضم إلى عروستيها "لوجي وجودي" التي لا تملك من الألعاب سواهم، ورغم أنها لا تشبه الصغيرتين في المنزل، لكنها تقبض عليها في محبة "الاتنين حباهم وهلعب بيهم".
بسمة "زعيمة العصابة" كما يحب أن يصفها معلموها، إذ تقود دومًا الفتيات إن ما قررن "مناغشة" المدربين وأهل المدرسة. دون صديقاتها اختارت ذات الحادية عشر عامًا "جركن" كبير الحجم ليكون رأس عروستها، بينما وضعت عصا خشبي لمكنسة ليشكل الجسد "عشان تبقى عروسة كبيرة وظاهرة كده" بطفولية تبرر الصغيرة، التي لم تتلق تعليمًا لضيق حال أسرتها، فيما تنظر بإجلال لدميتها قائلة "عمر ما كان عندي عروسة أخيرًا بقى ليا واحدة".
تابع باقي موضوعات الملف:
فتش عن المخلفات.. الكنز في إعادة التدوير (ملف خاص)
بالصور- في قلب الشيخ زايد.. بيت كامل من المخلفات
خالد حلاوة.. مدرس "فرنساوي" يحلم بمزرعة "دود" في كل بيت
8 معلومات عن إعادة التدوير في مصر (فيديوجراف)
فيديو قد يعجبك: