في تجربة "حوار في الظَّلام".. حين يُصبح المُبصِرُ كَفيفاً والكَفيفُ مُبصِراً (صور)
كتب - أحمد شعبان ومحمود عبدالرحمن:
داخل غرف مُظلمة، تَجمع مُبصِراً وكَفيفاً في مكانٍ واحد، تبدأ التجربة، تجربة الاستغناء عن عَينيْك. تتلمّس خُطاك باستخدام العصا البيضاء، تسير ببطء مستندًا على الجدار، قبل أن تقوم بجولة في أماكن عامّة، يصحبك فيها مرشد كَفيف، وسط ظلام تامّ، زادك فيه خيالك لاكتشاف المجهول في مغامرة غير معهودة، ترى فيها بيديك، وتستكشف بأذنيك، وتبحث فيها بأنفك، في غرفٍ يضيع فيها الخطّ الفاصل بين المُبصر والكَفيف، هُنا لا فرقَ بَيْنهما، غير أن ثمّة عملية لتبادل الأدوار، ففي التجربة، في الظلام؛ يُصبح المُبصِرُ كَفيفاً والكَفيفُ مُبصِراً!
على مقاعد الانتظار داخل مقر جمعية "النور والأمل" لرعاية الكفيفات، المواجه لبوابة المنطقة الحرة في حي السفارات بمدينة نصر، جلس "علي سالم"، مهندس إلكترونيات رفقة خطيبته "روجينا" في انتظار موعد بدء تجربة "حوار في الظلام" Dialogue Social Enterprise، الذي أعلنت الجمعية قبل أسبوع، الافتتاح الرسمي للتجربة، بالشراكة مع مؤسسة دروسوس السويسرية، وDialogue Social Enterprise وشركة CiD الاستشارية، بحضور وزيرة التضامن الدكتورة غادة والي، التي وصف بيان صادر عن الوزارة التجربة بأنها "إحدى أكثر التجارب تشويقاً في العالم، والتي تمنحك فرصة لإعادة استكشاف ما حولك".
مرّا "علي" و"روجينا"، على موظف الاستقبال في مقر الجمعية لحجز تذكرتين، تكلفة الواحدة 150 جنيهاً، فيما تحدث معهم "عماد الهلالي"، 33 عاماً، مدير معرض "حوار في الظلام"، حول فكرة المعرض والهدف منها، وهو التوعية ومساندة متحدّي الإعاقة، وفهم معاناتهم ومعايشتها، من خلال رحلة داخل الغرف المظلمة، كذلك تلقى استفساراتهم عن وقت التجربة، ومستوى الأمان داخل القاعات الأربعة المخصصة للمغامرة.
إعادة اكتشاف الأشياء، بالاعتماد على الحواس الأربعة (السمع- اللمس- الشم- التذوق) دون البصر، لطالما شغلت "علي سالم"، مهندس إلكترونيات، شاهد التجربة في أحد الأفلام الأجنبية، فتعلّق بها، وتمنّى لو يخوضها رفقة خطيبته "روجينا"، وحين كان يُطالع صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، قبل 4 أيام، أتاه الإعلان عن انطلاق التجربة في مصر "صور الإعلان شدّتني، بيقلّك الفكرة من خلال الحاجة وعكسها، يعني إزاي تمشي من غير رجلين، فالموضوع مشوّق إنك ازاي تُدرك الأشياء من غير عينيك"، كان هذا ما يبحث عنه الشاب العشريني، مغامرة مختلفة يكسر بها الروتين، أن يستمر لنحو ساعة كاملة في اختبار حواسه، فقرر خوض التجربة التي يصفها بأنها أكثر اختلافاً.
تقول "روجينا"، معيدة في كلية الصيدلة، إنها تُدرك حجم ما يعانيه ذوو الإعاقة، من عدم فهم لمتطلباتهم واحتياجاتهم، والتعامل معهم بشكل خاطئ، والاستناد على صورة نمطية في التعاطف الكاذب معهم يجب تغييرها، غير أنّها متشوّقة بشكل كبير للتجربة، تتوقع أن يزيد وعيها بمعاناة ذوي الإعاقة البصرية "لأن خبرة الموقف نفسه إني أجرب أعيش زيهم، هتكون مختلفة، وتخليني أقدّر نعمة البصر وفي نفس الوقت أعرف إزاي أتعامل مع المكفوفين بشكل أفضل"، تقول الفتاة العشرينية، قبل أن تترك وخطيبها متعلقاتهما لبدء التجربة.
على مكتب بداخل مقر "النور والأمل" الذي يضم المعرض، جلست مريم أشرف موظفة الاستقبال، لتأكيد أسماء الحاضرين، الذين قاموا بالتسجيل على بعض مواقع التواصل الاجتماعي، تقول "في أكثر من وسيلة لتسجيل الحضور زي الموبايل أو الفيس بوك"، فيما يشير "عماد الهلالي"، مدير المعرض، إلى أنه عدد من حضروا إلى المعرض جاوز 1600 شخص، خلال الشهور الثلاثة الماضية.
يدلف زائر المعرض رفقة "الهلالي"، صوب مدخل جدرانه حمراء سميكة، ليس له أبواب إنما غطاءات سوداء سميكة، تُخفي وراءها غرفة ضيقة ضوْؤُها خافت، جدرانها مبطنة بالظلمة، إذ يكسوها غطاء أسود ناعم الملمس، يشبه السجاد المصنوع من الصوف، يأخذ الزائر عصا بيضاء ترافقه خلال التجربة، يشرح لهم الهلالي كيفية استخدامها. يزول الضوء الخافت شيئاً فشيئاً عندما يتحرك الزائر رفقة "الهلالي" في ممر، يقود إلى المرشد الكفيف الذي يصطحبه خلال المغامرة المقسمة إلى 4 مراحل، في 4 غرف، مظلمة تماماً "فيه بعض الناس بيكون عندها قلق بس احنا بنزيل القلق ده ونعرفهم لو أي حد مش عايز يكمّل يعرّفنا، وبنطمنهم إن المكان مراقب بالكاميرات ومستوى الأمان عالي، وتصميم المكان مرن مفيش فيه أي حاجة تقلق"، يشرح الهلالي ان زوار المعرض يدخلون في مجموعات، وبعد مرور المرحلة الأولى من التجربة، يزول قلقهم تماماً "وثقتهم في الاطمئنان للمكان بتكون جاية من صوت المرشد الكفيف مش إن الزائر مع صحابه"، وهو أول ما يحرص عليه "عباس توفيق"، أحد المُرشدين بالمشروع، أن يكتسب ثقة الزوار، قبل بدء التجربة.
في الظلام، صوت المرشد الكفيف هو الدليل، يتحسس الزائر المكان شيئاً فشيئاً، يحاول إدراك الأشياء من حوله وتمييزها، تلمس الجدران، يُنصِت إلى الأصوات الآتية من الأركان والزوايا حتى يعيها، فيما يدور الحوار مع المرشد، الدليل، الذي يقود خطا الزائرين، لمدة ساعة كاملة، وصولاً إلى نهاية التجربة، التي يقوم عليها فريق مكوّن من 22 شخص من ذوي القدرات الخاصة "المشروع ساهم ف توفير فرص عمل للمكفوفين"، الذين تم اختيارهم بعناية كبيرة بعد خوضهم مجموعة من الاختبارات والتدريبات لكيفية التعامل مع المُبصرين وشرح التجربة لهم، تحت إشراف خبراء مصريين وأجانب، وفق ما يذكر مدير المعرض، عن المشروع الذي يُطبّق للمرة الأولى في مصر.
في مدينة هامبورج في ألمانيا عام 1988، كانت البداية. دارت الفكرة في عقل الدكتور " أندرياس هاينيكي"، الذي كان يعمل إذاعياً، بعدما قام بتدريب صحفي شاب تعرّض لحادث أفقده نظره، لتشغل فكرة الإعاقة "أندرياس" بعدما أدرك من تعامله مع الشاب أن المكفوفين لديهم إمكانيات هائلة، وتركت التجربة في نفسه تساؤلات حول إمكانية دمج ذوي القدرات الخاصة، فقرر تأسيس تجربة "حوار في الظلام" Dialogue Social Enterprise، للتوعية ومساندة متحدي الإعاقة. وبمرور الوقت حظيت التجربة بانتشار كبير، وصارت موجودة في أكثر من 40 دولة حول العالم، من خلال 130 متحفاً، يزورها ملايين الأشخاص، بغرض خوض التجربة.
خلال مراحل التجربة، يرى الزائر وجهة نظر مختلفة لكل ما يتعلّق بنظرته للشخص الكفيف، يلخّصها قول الشاعر الفلسطيني جمال حمدان، في مطلع قصيدته "وجهة نظر": "قالوا العَمَى فَقْدُ النَّظَر/ قُلتُ البَصِيرةُ لا البَصَر.."، ويلخّصها "الهلالي" قائلاً إن التجربة تؤكد وجود فرق في إمكانيات وإتقان الشخص الكفيف لمهارات معيّنة أعلى من الشخص المُبصر بشكل كبير، فيما يلخّصها مَنْ خاضوا التجربة، ومنهم علي سالم، مهندس الإلكترونيات، بقوله إنها تجربة غير مألوفة "حسّيت إني كفيف ساعة التجربة، أدركت قد إيه احنا بنتعاطف مع الكفيف بمجرد كلام، لكن التجربة دي بتعرّف قد إيه معاناتهم واللي بيتعرضه ليه يومياً"، بحسب صاحب الـ29 عاماً.
الهدف من تجربة "حوار في الظلام" هو رفع الوعي بأهمية المساواة والدمج المجتمعي لفاقدي البصر، ومحاولة فهم كيفية التعايش معهم، من خلال خوض تجربة ممتعة مشوّقة تغني عن المحاضرات والمؤتمرات "الشخص بيخوض التجربة بنفسه، وبيعيشها وبتترك أثر في ذهنه، ومن خلال ده الرسالة بتوصل حول دعم المكفوفين"، يذكر "عماد الهلالي"، مدير المعرض، فيما تقول "منّة أشرف" مدير التسويق والتواصل بالتجربة، التي احتاج انطلاقها في مصر ثلاث سنوات من التواصل مع المؤسسة الألمانية لنقل الفكرة، أنه خلال الأشهر الثلاثة الماضية "كنّا بندعي المقربين ودايرة المعارف في فترة الاختبار والتشغيل التجريبي للمعرض، لاختبار مدى نجاحه وتفاعل الناس معاه"، كذا وُجّهت دعوات لبعض المدارس والشركات، لمعرفة مدى تفاعلهم مع التجربة، وعن شعورهم خلالها، ومدى نجاح المعرض في إيصال الفكرة المرجوة منه، بعدها قامت المؤسسة بإعلان انطلاق التجربة رسمياً.
خوض تجربة أن تكون كفيفاً، تترك في الذهن أسئلة حول ماذا يفعل أصحاب الإعاقة البصرية في حياتهم اليومية "لو الأمر فيه شوية صعوبة عليك، فبالتأكيد في ألف بالنسبة للشخص الكفيف"، يقول "الهلالي"، بعدما انتهى من تلقي استفسارات ثلاث فتيات وشاب، جاءوا لخوض التجربة، بعدما شاهدوا إعلاناتها على مواقع التواصل الاجتماعي "احنا عارفين إنها موجودة في كذا حتة في العالم، وشفنا أصحابنا خاضوها وكتبوا عنها، فقررنا نيجي"، تقول ولاء أسامة.
دائماً ما يحب الأربعة التعرف على أية تجارب جديدة، تذكر نورهان سعيد، أنها توقعت الشعور بالخوف داخل الغرف المظلمة "لكن محصلش، ومكنتش متخيلة إني أقدر أعتمد على حواسّي وأخمّن الأشياء اللي بشوفها وبسمعها صح"، غير أن أكثر ما ترك أثراً هو جلوسهم مع المرشد الكفيف وحديثهم معه، "إحساس حلو لما تكون بتتكلم مع حد من القلب للقلب، مش شايفين بعض، فده بيقرّب الناس أكتر"، بحسب ما تقول.
عقب كل تجربة، يتوجه مسئولي المعرض إلى الزوار لسؤالهم عن أبرز الأشياء التي تأثروا بها وإحساسهم داخل التجربة، تقول منّة أشرف، مدير التسويق والتواصل بالتجربة، أن الهدف "أن كل واحد يمر بالتجربة يحاول يغير بإيده حاجة تساعد فاقدي البصر"، حتى يزيد الوعي وإدراك الشرائح المختلفة في المجتمع بمعاناة ذوي الإعاقة البصرية، أملاً في البحث عن حلول لدمجهم في المجتمع وحصولهم على فرص متكافئة مع غيرهم.
طوال الساعة، وقت التجربة، كانت المتعة رفيقة الشباب الأربعة "انبسطنا وضحكنا، فهي حاجة توعوية في قالب إنساني ممتع، والمرشدين روحهم حلوة جداً"، بحسب محمد سيد، والأمر نفسه بالنسبة لـ"علي سالم" وخطيبته، الذين أبديا سعادة كبيرة بكونهما من أوائل من خاضوا التجربة " ومتوقعين أننا نقول لكل اللي نعرفهم إن دي تجربة مهمّة ولازم تخوضوها".
فيديو قد يعجبك: