القاهرة في زمن الكوليرا.. "المدق" منصة تكتشف تطور المدينة بالخرائط والصور
كتبت- شروق غنيم:
طيلة ثماني سنوات عكف الباحث شهاب فخري إسماعيل على جمع خرائط ووثائق تسرد تاريخ القاهرة. رحلة خاضها خلال بحث أجراه لرسالة الدكتوراه في جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة الأمريكية، يُنقب عن تاريخ القاهرة في فترة الاحتلال البريطاني، يحاول فهم تطور المدينة من خلال محوري الصحة العامة والاستثمار العقاري، وفي فبراير من العام الجاري أطلق موقع باسم "المدق" الذي يضم سلسلة من المقالات والخرائط والمواد البصرية عن القاهرة، من بينها كيف عاصرت زمن الكوليرا.
في شهر مارس المنصرف قرر الباحث تغيير ترتيب المقالات المنشورة في المشروع، صارت المتعلقة بالأوبئة لها الأولوية في الفترة الحالية، وتحديدًا ما عايشته القاهرة خلال تفشي وباء الكوليرا الذي اقتلع آلاف الأرواح عالميًا، والذي انتشر في أعوام 1883،1895و1902 "لإن اللي عايشينه دلوقتي له سوابق في التاريخ، الطاعون في القرون الوسطى، ثم الكوليرا. حاجات شبيهة حصلت في التاريخ بتعلمنا إن الحياة هتكمل، لكن اللي لازم ندرسه هو طريقة تعامل الحكومات مع الوباء، وإيه الدروس المستفادة من الفترات دي".
كانت دراسة الأوبئة نقطة انطلاق اهتمام الباحث خلال رسالته للدكتوراه "ابتديت أهتم بالتاريخ من هنا، وفي أول سنين بحثي الكوليرا كانت مستحوذة على كل اهتمامي"، جمّع إسماعيل مادة أرشيفية ضخمة عن الكوليرا، صور ووثائق وخرائط، دقت أسئلة كثيرة في عقله عن تلك الفترة "،كان النقاش حول الكوليرا مُلتبس لأن ده كان قبل تطور علم الجراثيم". أثار الوباء وقتها العديد من الانقسامات في الصفوف العلمية التي لم تكن تفقه بعد ماهية الكوليرا، كذلك أحدثت صراعات سياسية عن منشأ الوباء ومن تسبب في انتشاره "مكنش في وقتها نظرية سائدة عن الكوليرا".
عام 2017 حصل الباحث شهاب فخري إسماعيل على الدكتوراه، لكن ظلت أمنية بداخله وهي ألا تظل كلماته حبيسة 400 صفحة في رسالة بحثه، لذا أراد أن تخرج في سلسلة مقالات للجمهور العام، يتفاعل معها وألا تقتصر أبحاثه على الأكاديميين فقط، وهو ما جناه من خلال موقع المدّق، خصوصًا في سلسلة المقالات التي ينشرها حاليًا عن وباء الكوليرا.
بعد عام واحد من الاحتلال البريطاني ضربت الكوليرا مصر، من دمياط تفشى الوباء في يونيو 1883 تزامنًا مع إقامة إحدى الموالد الصوفية بحسب مقال الباحث "وقتها المصريين سموها الشوطة أو الهواء الأصفر"، كان المسمى لائقًا عما حدث في مصر فـ"الشوطة" حصدت حوالي 8 آلاف مصريًا في الفترة بين 15 يونيو و35 أغسطس عام 1883، لكن إسماعيل يستدرج في مقاله "كان فيه صعوبة في رصد الوفيات بدقة بسبب دفن مئات الضحايا بدون كشف طبي في أشد الأيام فتكًا".
يذكر الباحث خلال حديثه لمصراوي عن التخبط الذي أصاب شعب القاهرة، لم يكن هناك فهمًا وقتها للكوليرا، "الناس كانت بتتعامل معاها على إنها حاجة ممكن يروحوا للعطار عشان يديلهم علاج، يستخبوا في بيتوتهم، أو إن لما حد يتصاب ميبلغوش خوفًا من الحجر الصحي".
كان ذلك وضعًا عالميًا، إذ كشفت وقتها الجائحة عن هشاشة الحدود وكيف يتورط الجميع في مواجهة مرضًا فتاكًا لا يفرق بين فروق اجتماعية أو دينية. حين تفشت الكوليرا تكشّفت حقائق شتى "خلال المؤتمرات الدولية لمناقشة سبل منع تفشي الأوبئة كانت المسائل الأهم هي حماية حركة التجارة العالمية".
لذا في خاتمة مقال عن عالمية الأوبئة، يتساءل الباحث "مع وباء كورونا تتضح أهمية الحلول الكبرى مثل تأمين صحي جيد للجميع أو توجيه الإنتاج. الفيروس يطرح السؤال الحقيقي: هل تُسخّر الرأسمالية قوتها للتربح من الأزمة أو الخروج بأقل الخسائر على حساب أرواح البشر بالإصرار العقائدي على استمرار آليات السوق وعملية الإنتاج؟ أم إنه فرصة لإعادة صياغة أسس الاجتماع البشري؟".
داخل الموقع تتعدد المواد، مقالات مواد مصورة وصوتية، كذلك أرشيف لخرائط القاهرة بداية من الحملة الفرنسية عام 1809 وحتى عام 1920 فيما تتضمن أدوات تحكم لقراءة الخرائط، إذ يؤمن الباحث أن الخرائط تحكي أكثر ما هو مجرد رصد لتضاريس جغرافية "لما بنقارن الخرائط ببعض بنفهم حاجات كتير، زي النسيج العُمراني"، وراء كل خريطة حكاية متعلقة بكواليس إعدادها"، خلال عملية المسح وإنتاج الخريطة بتظهر نية صاحبها والخريطة بتبقى أداة للتحكم في الدولة"، مثلما حدث في فترة الاحتلال البريطاني الذي رسم في خريطته للقاهرة شوارع لم تكن قد بُنيت بعد لكنه استثمرها عقاريًا بعدها "ده كان بيوضح إنهم مقررين يكملوا في مصر".
لا يُحب إسماعيل الانغماس في الماضي وحسب، ينظم جولات في شوارع القاهرة برفقة أكثر من مصور مثل أحمد الغنيمي وعمرو عادل لسرد تاريخ تلك المناطق، ينشر الصور عبر الموقع وحساباته على مواقع التواصل الاجتماعي "دي الفكرة اللي عاوز أكمل شغل عليها في المدق، تبقى جولة زمنية وبصرية بتحكي عن الماضي بس وإحنا ماشيين في الحاضر"، لتصبح دعوة لاستكشاف الأماكن التي نعيش بها حاليًا وتاريخها.
فيديو قد يعجبك: