هل أراك؟| (11).. الشيخ محمد رفعت الفلسطيني (بروفايل)
كتبت-إشراق أحمد:
في الميعاد يتوقف مؤشر راديو المقهى على الأثير القادم من مصر، تعبر تلاوة الشيخ محمد رفعت إلى قلوب المستمعين، فيما ينزوي طفل يسترق السمع، يتخفى وراء جدار المقهى القريب من منزله، لم يكن مسموحًا لمن بعمره أن يتواجد في أماكن الكبار، لكن هيام الصبي بصوت المقرئ المصري يفوق أي مغامرة. تعلق محمد رشاد الشريف بقراءة "رفعت"، اتخذه معلمًا دون أن يراه، فما إن يعود للمنزل حتى يردد ما حفظه بالطريقة ذاتها، علم الصبي السبيل، لم يفكر في شيء سوى حفظ القرآن وتلاوته بالخشوع ذاته الذي مس فؤاده رغم الحدود، أخلص الشريف النية في استكمال مسيرة "رفعت"، فلم ينقطع صوت "قيثارة السماء" عن فلسطين لأمد قريب.
نعمت الأراضي الفلسطينية بمداد من الأصوات العذبة، حملت القرآن الكريم في قلوبها، لها في المسجد الأقصى ركن شديد، أما النوافل ففي كافة أرجاء البلاد، نهل أصحابها من تعاليم الأزهر الشريف وشيوخه في مصر، ملأت حناجرهم السمع بطلاوة الآيات وإحسان التلاوة، كانوا الأقرب لكبار المقرئين المصريين، حتى تكاد تكون الفوارق بين المدرستين ذائبة، ولما تأسست إذاعة القدس عام 1936، بلغ صوت القراء الفلسطينيين عبر الأثير أذان "السمّيعة" العرب.
كان الشيخ رفعت بلغ الثالثة والأربعين من عمره، حين استقبل بيت رشاد عبد السلام الشريف ابنًا، عام 1925، اسموه محمد، كبر الصبي في أرجاء مدينة الخليل، جوار الحرم الإبراهيمي، ووسط أسرة لا يغيب عنها حلاوة الصوت ومحبة القرآن، لكن الصغير كان له حب خاص، ما خشي الشريف وهو بعمر العاشرة أن يقطع مسافة تتجاوز 30 كيلومترًا للوصول إلى القدس، فقط ليبحث عن دار يحمل سطحه إشارة لوجود الراديو، فيستمع لوصلته المنتظرة كل ثلاثاء وجمعة، وقت إطلالة الشيخ رفعت، فيهيم لساعات ثم يبيت في منزل شقيقته الكبرى ويعود إلى مدرسته صباح اليوم التالي.
ظل الشريف على المحبة، يسمع ويرتل ويتعلم، تتلمذ على يد أحد قراء الرعيل الأول في فلسطين، الشيخ حسين أبو سنينه، إمام الحرم الإبراهيمي في الخليل حينها، والذي أمضى نحو 40 عامًا من عمره في مصر، صادق فيها عدد من المقرئين المصريين، أقربهم الشيخ علي محمود. كان الشريف وقتها فتى لم يكمل السادسة عشر من العمر، إلا أنه لفت الأنظار بصوته العذب، وخشوع جم يميل له قلب مَن يسمعه، ففُتحت له أبواب إذاعة القدس في هذا العمر الصغير عام 1941.
ذاع صيت المقريء الفلسطيني الشاب، وما نقص وده لمعلمه شيئًا، حافظ على وصلته المقدسة، وزاد عليها خطابات يرسلها للشيخ رفعت في مصر، يحملها شقيقه الأكبر عزت. لم ينتظر الشريف ردًا، كان كل مراد التلميذ المخلص أن تصل كلماته لشيخه، إلا أنه مع الثاني من أكتوبر في العام 1944 حصل ابن مدينة الخليل على أكثر مما تتمنى.
تلقى الشريف جوابًا من الشيخ رفعت، لمس السماء مع كلماته المرسلة بخط يده، وتعبيراته التي لا تقل عذوبة عن صوته، ذاب ابن التاسعة عشر عامًا مع البداية "ولدي العزيز الأستاذ الشيخ محمد رشاد الشريف المحترم"، خجل من حديثه عن امتنانه لتذكره له رغم غيابه بفعل المرض، فيما ود لو سافر للتو إلى مصر حيث يجلس معلمه، بينما يخبره عن رأيه في صوته "قد راقني سلامة الموهبة الربانية حين استمعت إليكم من الإذاعة الفلسطينية فكنت صورة صادقة للترتيل الأصيل غير المتكلف وأخبرت أخاكم أنني استمع إلى محمد رفعت الثاني من فلسطين".
نزلت الكلمات بردًا وسلامًا على صدر الشريف، لكن زادته مسؤولية إزاء النهج الذي اتبعه في "التلاوة عن قلب موصول بالله ووعي باللغة والأداء لتكون معاني القرآن أكثر وضوحًا وتأثيرًا في نفس السامع وقلبه". لم يكن الشريف مقلدًا بل وقع خشوع الشيخ رفعت في قلبه فلم يبرحه، رغم أن حضوره كان مختلفًا.
حافظ الشريف على إطلالة المعلم، إذ درس علوم القرآن في جامعة الخليل، وزاول تدريس اللغة العربية في مدارس مدينته والقدس. ظل يرتدي البذلة وليس القفطان أو العباءة شأن جميع المقرئين في زمانه، وأبقى على الطربوش بدلاً من العمامة أو "الحَطة" الفلسطينية، فلم يخلعه طيلة حياته. عبرت إطلالته إلى القلوب كما صوته.
يقف إمامًا أو مقرئًا، لم يُشاهد جالسًا إلا في تسجيلاته للتليفزيون، ينطلق في التلاوة كأنما يتحدث بالقرآن، تنفلت منه الآيات دون تكليف، يطغى هدوءه على المكان فتسري سكينة بين الحضور انصاتًا لتلقي المعاني الشارحة لنفسها عبر صوته، يخشع تأثرًا، يفرح بآيات الرحمة، ويبكي حين يتلو سورة يوسف وقت إلتقائه بإخوته.
تمنى الشريف لو يلتق بـ"سيد قراء هذا الزمان" كما ظل يصف الشيخ رفعت، لكن الموت كان أقرب، تُوفي الأخير عام 1950، لكن المقريء الفلسطيني لم يفارقه قط، أعطى ابنه البكري اسمًا مركبًا ليكون "محمد رفعت"، وتصبح كنيته "أبو رفعت"، حتى في أوج شهرته لم ينكر أنه يتبع درب معلمه، يخبر ابنه الأوسط "معروف" بينما يواصل الاستماع لتلاوته بعدما خط الشيب رأسه "يا ولدي هذا ترتيل الشيخ محمد رفعت مَلَك عليّ مشاعري ومَلك عليّ حياتي".
لأجل صوت رفعت ظل الشيخ محمد رشاد مرتحلاً في صغره بين الحرم الإبراهيمي والأقصى طلبًا في سماع آية، ولما بلغ أشده وأتم الأربعين عامًا، واصل المسير بعدما عُين قارئًا لأولى القبلتين عام 1966، فكان يؤم المصلين لصلاة الجمعة في الخليل والأخرى في القدس، حتى أن البعض أطلق عليه "قارئ الحرمين".
ربت صوت محمد رشاد على قلوب أهل فلسطين، هون عليهم المصاب بيقين التلاوة التي تسافر بهم لعالم لا خوف فيه من احتلال ولا حزن، حفظ بالترتيل مكانة أصحاب الأرض، فكان القاريء الوحيد من جيله الذي سجل القرآن كاملاً بتلاوته داخل أولى القبلتين، وتكفل المؤتمر الإسلامي بطباعة شرائط الشيخ بعد 4 أعوام من التسجيل وحمل اسم "مصحف المسجد الأقصى المرتل" عام 1984.
شديد الشبه بين حالة صوت الشيخ رفعت والشريف، حمل الأخير لقب "قيثارة فلسطين"، لكنه شأن جميع الفلسطينيين لم يسلم رغم مكانته من بطش الاحتلال، أُجبر قاريء الأقصى على ترك موطنه؛ في أعقاب الانتفاضة الثانية، قتل الإسرائيليون ابن له يسمى إمام وهو في الخامسة والعشرين من عمره، بعدما قضى الشاب صلاة الجمعة تلقى رصاصة غادرة، تبعها منع أبيه من القراءة ودخول الأقصى، ضاقت الدنيا على الشيخ الشريف بما رحبت، لكن ما استطاع أن يتوقف عن تلاوة القرآن، جاءته دعوة بالذهاب إلى الأردن، وإمامة مسجد "الشهيد عبد الله" في عمان، فسافر عام 2002، مودعًا بلاده.
56 عامًا قرأ الشيخ محمد رشاد القرآن في رحاب المسجد الأقصى وتقدم لإمامة المصلين، ما كان يهون الغياب بعدها سوى استمراره في التلاوة ورفع الأذان رغم تجاوزه الثمانين، لكن الشوق لم ينطفيء، لسنوات تمنى أن يزور القدس حتى بلغها بشق الأنفس، بعدما سمح الاحتلال بدخوله لساعات، كان ذلك عام 2013، حين أقام القارىء الفلسطيني الصلاة بالمصلين، وغمرته محبة المسنيين والشباب، كأنه الوداع الأخير.
قبل يومين من الذكرى الخامسة عشر لاستشهاد ابنه إمام، لحق به الشيخ محمد رشاد في 26 سبتمبر 2016، رحل شيخ قراء فلسطين عن عمر 91 عامًا متمنيًا أن يُدفن جوار الحرم الإبراهيمي كما نشأ، لكن أمنيته لم تتحقق، أتم مسيرته تاركًا ابنًا يسمى معروف، يحمل رايته في التلاوة، وميراثًا من تسجيلات صوتية توثق لأحد أشهر القراء الفلسطينيين وخليفة الشيخ محمد رفعت.
المصادر:
- مقابلات وتسجيلات أذيعت للشيخ محمد رشاد الشريف.
- موقع إذاعة القرآن الكريم الفلسطينية.
اقرأ أيضًا:
هل أراك؟| (1).. "حصّادين" الأرض المقدسة (بروفايل)
هل أراك؟| (2).. عيون قارة الفلسطينية (بروفايل)
هل أراك؟| (3).. زارعو الألغام في سوق حيفا (بروفايل)
هل أراك؟| (4).. يوم أن حملت مُعلمة فلسطينية السلاح (بروفايل)
هل أراك؟| (5).. الثلاثاء الأحمر في سجن عكا (بروفايل)
هل أراك؟| (6).. ليلة عيد في ديار فلسطين (بروفايل)
هل أراك؟| (7).. مَوطني (بروفايل)
هل أراك؟| (8).. رسالة بريطانية: ليس لإسرائيل صديق (بروفايل)
هل أراك؟| (9).. معركة الأرض (بروفايل)
هل أراك؟|(10).. محاكمة المحتل (بروفايل)
فيديو قد يعجبك: