مهمة "الأزهر" في كابول.. فصل من قصة أفغانستان
- مارينا ميلاد:
ينكفئ الأطفال - ويرتدي كل منهم جلبابًا و"عِمه" على رأسه – على أوراق امتحاناتهم. تحمل الورقة نشيدًا ظلوا يرددونه خلال فصلهم الدراسي المنتهي: "وطني وطني أرض الحبِ.. وطن الفنِ وطن الكتبِ.. وطني وطني وطن الشمسِ.. وطني الأجمل فوق الأرض والمستقبل مثل الروضِ".. كان يوم 15 أغسطس الجاري يومًا عاديًا في المعهد الأزهري بالعاصمة الأفغانية "كابول"، يباشر فيه المعلمون من شيوخ الأزهر عملهم لإنهاء الامتحانات. فجأة؛ قطع كل ذلك اتصال من مسؤولي السفارة المصرية يطلبون منهم المغادرة سريعا والمجيء بأغراضهم إلى مقرها.
سقطت "كابول" في يد مسلحي طالبان، غادر الرئيس بلده، ولم يكن الواقع مماثلا لكلمات ذلك النشيد الذي كانوا يرددونه، بل غريبًا وقاسيًا.
تركت البعثة الأزهرية أفغانستان وطلابها. تابع "رامين" – وهو يدرس الآن في جامعة الأزهر بمصر – مشهد عودتهم بحسرة شديدة. لم يتوقع الشاب الذي كَبر في زمن السيطرة الأمريكية وتعلم داخل هذا المعهد أن يشاهده يغلق أبوابه. فيما لا يعرف أبوه أين سيذهب بابنه الصغير الذي لازال يدرس هناك؟ ولا ببناته، اللاتي لا يضمن استمرار تعليمهن من الأساس!. فقد عادت بلدهم إلى حيث كانت قبل 20 عامًا.
عام 2009 - اصطف عشرات الطلاب الأفغان في ساحة المعهد الأزهري بمنطقة "ده أفغانان كیرو تمران" بكابول. صعد أحدهم على منصة مرتفعة ممسكا بالميكروفون وورقة تحمل فقرات الإذاعة الصباحية؛ ووزع الأدوار على زملائه لقراءة أجزاء من القرآن وتلاوة الأدعية.
يحاوط الطلاب معلموهم بزيهم الأزهري التقليدي. ينتهي الطابور الصباحي بعد 20 دقيقة ويدخلونهم إلى مبنى المعهد المكون من ثلاثة طوابق ويبدو عليه الحداثة؛ فقد تأسس هذا العام بناء على مذكرة تفاهم بين الأزهر الشريف ووزارة المعارف (التعليم) الأفغانية.
على مقربة؛ كانت الأجواء مضطربة أكثر من المعتاد. فقد قُتل ثمانية أشخاص وأصيب 40 آخرون في تفجير انتحاري وقع قرب فندق في وسط العاصمة؛ حيث يقيم العديد من الأجانب. ارتفعت سحابة من الغبار والدخان فوق الحي الأشهر "وزير أكبر خان" الذي يضم سفارات عدة منها السفارة المصرية. وكان ذلك هو سابع هجوم كبير يقع في العاصمة خلال 5 أشهر ؛ رغم انتشار أكثر من 113 ألف جندي أجنبي.
يبدو أن الأفغان ألفوا هذا الوضع وأيقنوا أن الحياة ستمضي رغم كل شئ.. لم تثن التوترات أسرة "رامين الرحماني" عن الذهاب إلى المعهد – وهو الأول من نوعه لديهم - لتقديم أوراق ابنهم فيه. لم يخيب الصغير ظن أسرته واجتاز اختبارات المعهد الصعبة؛ ليترك مدرسته القديمة وينتقل إليه في الصف الرابع الإبتدائي.
يقول "رامين": "كانت أسرتي تخبرني وقتها أن هذا المعهد هو الأفضل وبالفعل وجدته كذلك.. كان الشيوخ مبتسمين دائمًا؛ لم أرهم غاضبين أبدًا".
ربما كان السياق العام مُشجعا لتأسيس هذا المعهد. فخلال ثمانية أعوام سابقة؛ زادت أعداد مدارس كابول وجامعتها والبرامج الداعمة للتعليم؛ إذ ينقل "رامين" عن والده – الذي لا يتحدث سوى لغتيهما "البشتون والفارسية" – "التعليم بعد عام 2001 صار جيدًا تدريجيًا.. كان هناك مدارس من أفضل مدارس أفغانستان مثل الفرنسية، والألمانية، والتركية وبدأت الفتيات تتعلمن".
لم يكن الوضع هكذا قبل عام 2001 حين سيطرت طالبان على الحكم منذ عام 1994. فتذكر بيانات البنك الدولي أن عام 1999 لم تكن هناك أي فتاة مسجلة في المدرسة الثانوية، وكان عددهن في المدارس الابتدائية لا يتجاوز الـ 9000 تلميذة. لكن بحلول عام 2003 – أي بعد الإطاحة بنظام طالبان بعامين - كان هناك 2.4 مليون فتاة في المدرسة وحوالي ثلث الطلاب في الجامعات من النساء.
تغير وجه أفغانستان كثيرًا.. كذلك بدا الوضع للكاتب الصحفي، محمد السيد صالح، الذي زار كابول والمعهد الأزهري ضمن وفد مصري عام 2010، حيث شبهها بـ"دولة شبه مدنية" أو هكذا ظهرت له. فأفغانستان طالبان التي عرفها من نشرات الأخبار قبل سنوات صار يتولى سيداتها مناصب مرموقة ولا تغطين وجوههن، ويدعم مسؤولها صورة جديدة لها بعيدة عن صورة الإرهاب رغم الاستهدافات التي لم تتوقف.
يحكي الرجل عما لاحظه من أهمية للمعهد الأزهري عند الأفغان وكثرة الطلاب المترددين عليه، وهو ما يرجع – في رأيه - إلى احترام الرجل الأزهري في الأوساط الأفغانية رغم "المَد الشيعي" الذي كان واضحًا.
لأكثر من مرة؛ حضر"صالح"خطب بمساجد كابول خلال فترة إقامته، وتكررت عليه مشاهد تهافت الناس للتبارك بالشيوخ الأزهريين عقب إلقائهم الخُطب التي يدور محتواها حول "وسطية الإسلام".
"لأن الشيوخ الأزهريين غير منحازين لأي طرف".. يرى الشيخ كرم عبد العزيز، أحد مُعلمي المعهد، أن ذلك هو سر تقديرهم: "نصادف طلاب وآخرين يتحدثون في السياسة؛ لكننا نرد بِحكمة حتى لا نتعرض للخطر".
تَعلم "رامين" ذلك من شيوخه. كَبر وصار أكثر استيعابًا لما هو أكبر من دروس العلوم والنحو والبلاغة؛ فعلموه كيف يتعامل مع الناس حوله ويتقبل أفكارهم؛ فكان له المعهد "نِعمة عظيمة" – حسب وصفه.
ولم تقتصر رسالة هؤلاء الشيوخ داخل جدران المعهد أو المساجد؛ إنما انتشرت في القنوات التلفزيونية الأفغانية، واستعانوا بـ"رامين" مترجمًا لهم في أغلبها.
تتبدل بعثات المعهد، الذي يضم نحو 800 طالب، كل فترة؛ وفي مارس 2019؛ حان دور بعثته الجديدة التي لم تكن تتوقع ما ستلاقيه هناك فيما بعد.
كانت الأحاديث في كابول حينها تدور عن احتمالية انتهاء الوجود العسكري الأمريكي إذا نجحت المفاوضات في العاصمة القطرية بين ممثلي الولايات المتحدة وحركة طالبان. دَعم ذلك الاتجاه ما خسره الجيش الأمريكي من أفراد وما أنفقه من مال منذ عام 2001، والذي قدرته وزارة الدفاع الأمريكية بنحو 760 مليار دولار.
وفي حين تبنى أفغان وجهة نظر أكثر تفاؤلا بأن المفاوضات ستنهي الحرب الدائرة بين الطرفين، كان أخرون؛ ومنهم أسرة "رامين" - قلقين من أن طالبان الحالية لم تختلف عن طالبان التسعينات؛ وتكسب وقتًا بالمفاوضات ليس أكثر.
وصلت البعثة الجديدة للمعهد. لا ينكر الشيخ كرم، أحد أعضائها، أنه كان خائفًا لدرجة كبيرة، كما أن أسرته رفضت سفره وزادت من قلقه عليهم. فالشيخ كرم، خريج كلية التربية، واحدٌ من 23 شيخا بالبعثة يتقدمون إلى مسابقة بالأزهر؛ تؤهل من يجتاز اختباراتها إلى السفر لإحدى الدول للعمل بالمعاهد.
لم يكن يعلم أن أفغانستان ستكون من نصيبه. يمكنه أن يعتذر لكنه لم يفعل وأقنع أسرته بما ورد في القرآن عن السعي والهجرة دون أن تتبدد مخاوفهم جميعًا. ثم تذكر الشيخ قول الشاعر: "مشيناها خطى كتبت علينا .. ومن كتبت عليه خطى مشاها".
وبعد وصولهم بفترة قصيرة، جاءهم تحذيرات متكررة من السفارة المصرية بعدم الخروج من سكنهم. وقد اعتادوها مع الوقت لكثرة الاضطرابات والتفجيرات: "منذ اليوم الأول ولم نعرف أفغانستان آمنة".
يكاد يكون يوم أفراد البعثة شبه متكرر لا تغيير فيه. فلم يخرجوا من العاصمة أو يروون حتى معالمها البعيدة عن محيطهم الضيق، الذي انحصر ما بين السكن والمعهد وأحيانًا المناسبات، على أن تكون جميعها بِعلم السفارة – بحسب الشيخ كرم. فلم يتعرف الشيخ البالغ 36 عاما على البلد الجديد والغريب بالنسبة له.
2020- وقعت الولايات المتحدة وطالبان اتفاق سلام في الدوحة يقضي بانسحاب جميع القوات الأمريكية وقوات حلف شمال الأطلسي من أفغانستان بحلول مايو2021، وبدأت الحركة إعادة تجميع صفوفها واستعادة قوتها تدريجياً في المناطق النائية.
في العام نفسه؛ حصل "رامين" على منحة دراسية في جامعة الأزهر بمصر بعد أن أنهى دراسته بالمعهد؛ وهي واحدة من 75 منحة سنوية للطلاب الأفغان للدراسة في مختلف المراحل التعليمية. التحق الشاب بكلية الشريعة والقانون، وحقق حلم والده الذي يقول عنه "يحب الأزهر بشدة". لدرجة أن الرجل أصر أن ينضم ابنه الأصغر للمعهد الأزهري بكابول، وكان يتمنى أن تلتحق ابنتاه به لولا أنه للبنين فقط.
فكرة إنشاء معهد للفتيات ظلت في خطة الشيخ شوقي أبو زيد، منذ توليه رئاسة البعثة، حتى وجد فرصة لتنفيذها على الأرض التي أهداها لهم الرئيس الأفغاني، وهو الرجل المُرحب به من جانب مصر .
فقد صارت مصر أقرب لأفغانستان بعكس سنوات ما قبل 2001 إثر تدخل الإتحاد السوفيیتی ثم عهد طالبان، وما تبعه من صعود المصري؛ أيمن الظواهري، للصفوف الأمامية بتنظيم القاعدة.
مع بداية العام الحالي؛ اشتدت المعارك، كثُرت مناطق النزاع، ولقي عدد كبير من المدنيين مصرعهم. لكن الأمور في المعهد سارت كالمعتاد ولم تتأثر . شارك الشيخ شوقي في فعاليات اليوم العالمي للمرأة وتحدث للعديد من النساء الأفغانيات عن حقوقهن. ثم انتهت اختبارات المنحة الجديدة في السفارة المصرية وقد تحدد الفائزين بها ومنهم "واثيق الرحماني"؛ وهو ابن عم "رامين"؛ الذي ظل يحلم بيوم مجيئه على مصر .
يقول الشيخ كرم إن البعض متخوف من التطورات وهو واحد منهم، لكن يُحدث نفسه أحيانًا: "وماذا بعد؟.. علينا استكمال عملنا ولن يحدث ما هو أسوأ".
لكن الأسوأ قد حدث وأسرع مما يتوقع أحد. عاد التاريخ إلى الوراء وخرجت طالبان من الأرياف نحو العاصمة وفرضت سيطرتها عليها.
حاول مسؤولو السفارة والبعثة مغادرة البلد في اليوم نفسه؛ لكنهم لم يتمكنوا بسبب إطلاق النار حول المطار وصعوبة هبوط الطائرة المصرية. عادوا إلى مقرهم وتولت المخابرات العامة تأمينهم - بحسب حسن النجار، القائم بأعمال السفارة.
تابع الـ43 شخصا من أفراد البعثة وموظفي السفارة مؤتمر حركة طالبان، وما يتعهد به متحدثها من تشكيل حكومة شاملة وإجراء انتخابات وحماية الحريات في إطار الشريعة الإسلامية. لكن المشاهد الدائرة في شوارع كابول حولهم تؤكد أن هذا الحديث يجد صعوبة في تصديقه: فالأب يلقي بطفله على حافلة جنود أجانب ليعطيه فرصة في الحياة يعرف أنه لن يعيشها في ظل وجود هؤلاء، والشباب غيب الخوف عَقلهم وتشبثوا بطرف طائرة مٌقلعة.
استمر وضع الجالية المصرية هكذا نحو 10 أيام حتى انتهى التنسيق – سرًا - وأخبرهم مسؤولو السفارة بأنهم سيغادرون. دب الأمل بداخل الشيخ كرم مجددًا ولعل الأمر ينجح هذه المرة. ساروا بسيارتهم في شوارع كابول الفارغة في المساء باستثناء أفراد طلبان وأسلحتهم، حتى وصلوا إلى المطار واستقلوا الطائرة العسكرية.
ليس هناك خاتمة لتلك القصة.. لم يعد أحد بإمكانه أن يتصور أو يحلل أو يتوقع ما هو قادم. لا يعرف نحو 10 ملايين طالب في أفغانستان مصيرهم الفترة المقبلة؛ بالأخص الفتيات. فقد أوقف ما حدث افتتاح معهدهن الأزهري رغم انتهاء بنائه. لم يتحدد موقف البعثة الأزهرية نفسها؛ فيترك الشيخ شوقي الأمر للمسؤولين بينما يتركه الشيخ كرم إلى زوجته وبناته:
"لا يمكن أن أضعهن في ضغط نفسي مرة أخرى". وفشل "واثيق الرحماني" في اللحاق بابن عمه "رامين" والسفر إلى مصر رغم إنهائه كل أوراق المنحة التي حصل عليها. فيما يعيش "رامين" قلقًا طوال الوقت على أسرته: "أي وقت يأتي اتصال من أفغانستان أخاف أن أجيب عليه.. أقول يا رب ماذا حدث؟!".
فيديو قد يعجبك: