أول كلية لتدريس الطب في الحضارة الإسلامية
المدرسة الداخورية كلية متخصِّصة في الطب
بنى مهذب الدين الداخور المدرسة الداخورية أو الدخوارية؛ لتكون أول مدرسة تخصصية يدرَّس فيها الطب بعيدًا عن البيمارستانات، وموقعها بالصاغة العتيقة قرب الخضراء بدرب العميد، والتي كانت قريبة من باب الزيادة الجنوبي للجامع الأموي بدمشق، وفي رواية أنها كانت وبستان الدخوار عند أراضي الجامع الأموي من قصر اللباد، شماليها نهر ثُورة.
فكان مهذب الدين الدخوار إذا فرغ من محل عمله بالبيمارستان النوري، وتفقد المرضى من أعيان الدولة وأكابرها وغيرهم، يأتي إلى مدرسته ثم يشرع في القراءة والدرس والمطالعة، ولا بد له مع ذلك من نسْخ وتأليف، فإذا فرغ من ذلك أيضًا أذِن لتلاميذه، فيدخلون عليه، مجموعة خلف أخرى من الأطباء والمتعلمين، وكان يُقرئ كل واحد منهم درسه ويبحث معه فيه، ويفهمه إياه بقدر طاقته. ويبحث في ذلك مع المتميزين منهم إن كان الموضع يحتاج إلى فضل بحث، أو فيه إشكال يحتاج إلى تحرير. وكان لا يُقرئ أحدًا إلا وبيده نسخة من ذلك الكتاب يقرأه ذلك التلميذ ينظر فيه ويقابل به، فإن كان في نسخة الذي يقرأ أمامه غلط أمرَه بإصلاحه، وكانت نسخ الشيخ مهذب الدين التي تُقرأ عليه في غاية الصحة وكان أكثرها بخطه.
لقد كان إلى جانبه ما يحتاج إليه من الكتب الطبية ومن كتب اللغة، مثل كتاب الصحاح للجوهري، والمجمل لابن فارس، وكتاب النبات لأبي حنيفة الدِّينَوَري، فكان إذا جاءت في الدرس مفردة يحتاج إلى كشفها وتحقيقها نظرها في تلك المعاجم والقواميس. قال ابن أبي أصيبعة يحكي قصة بناء المدرسة الداخورية وافتتحاها ومن درَّس بها: «ولما كان في سنة 622هـ وذلك قبل سفر الشيخ مهذب الدين عبد الرحيم بن علي عند الملك الأشرف وخدمته له، وقف داره وهي بدمشق عند الصاغة العتيقة شرقي سوق المناخليين، وجعلها مدرسة يدرس فيها من بعده صناعة الطب، ووقف لها ضياعا وعدة أماكن يستغل ما ينصرف في مصالحها، وفي جامكية (مرتبات) المدرِّس، وجامكية المشتغلين بها. ووصى أن يكون المدرس فيها الحكيم شرف الدين علي بن الرحبي. وابتدأ بالصلاة في هذه المدرسة يوم الجمعة صلاة العصر ثامن ربيع الأول سنة 628هـ، ولما كان يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الآخر سنة 628هـ حضر الحكيم سعد الدين إبراهيم بن الحكيم موفق الدين عبد العزيز والقاضي شمس الدين الخوئي والقاضي جمال الدين الخرستاني والقاضي عزيز الدين السنجاري وجماعة من الفقهاء والحكماء». ويؤكد النعيمي أن «المدرسة الدخوارية بالصاغة العتيقة بقرب الخضراء قبلي جامع الأموي، أنشأها مهذب الدين عبد الرحيم بن علي بن حامد المعروف بالدخوار في سنة 621هـ بالصاغة العتيقة، أول من درس بها واقفها».
وبالجمع بين الروايات، يكون تاريخ بناء المدرسة الداخورية أواخر سنة 621هـ وبدايات عام 622هـ، حيث كان مقدم الداخور على الملك الأشرف بالقاهرة في ذي القعدة سنة 622هـ، فكان واقفها أول من درّس الطب بها، ويبدو أنه ظل مدرسًا بها حتى سنة وفاته، حيث أوصى أن يكون المدرس بها من بعده الحكيم الطبيب شيخ الأطباء بدمشق شرف الدين علي بن الرَّحبي (ت 667هـ)، الذي استمر في رئاستها حوالي أربعين سنة، ثم صار المدرس فيما بعد الحكيم بدر الدين المظفر بن قاضي بعلبك، وتولى ذلك في يوم الأربعاء رابع صفر سنة 677هـ، ثم درس بها بعده عماد الدين الدنيسري (ت 686هـ)، وعز الدين السويدي (ت 690هـ)، والجمال المحقق أحمد بن عبد الله بن الحسين الأشقر وقد ولي مشيخة الدخوارية وتدريس الطب بها (ت 694هـ)، ومحمد بن عبد الرحيم بن مسلمة كمال الدين الطبيب (ت 697هـ)، ووليها أمين الدين سليمان بن داود الدمشقي (ت 732هـ)، ثم جمال الدين محمد بن شهاب الدين الكحال (ت 732هـ)، وليها سنة 717هـ عوضًا عن أمين الدين سليمان.
وقد ظلت المدرسة الداخورية تمارس دورها الحضاري الرائد في تدريس الطب وتعليمه، وإخراج نوابغ الأطباء -أمثال ابن النفيس وابن أبي أصيبعة، ويتعاقب على رئاستها والإشراف عليها كبار أطباء الشام، حتى منتصف القرن التاسع الهجري، أي ما يزيد على قرنين من الزمان، ثم اندرس رسمها وعفى عليها الزمن، وهي اليوم دور ولا يعلم زمن دمارها.
فيديو قد يعجبك:
اعلان
باقى المحتوى
باقى المحتوى
إعلان