"كلمات شهية".. كيف تناولت 3 راويات حالة حب الطعام؟
كتبت- هبة خميس:
الطعام شهوتنا الأولى ووقود حياتنا، نكد طوال اليوم للقمة العيش ونحب فنطبخ لأحبائنا لنصل لحالة الشبع والاكتفاء معاً، يقلقنا غياب الزاد ونأمن لوجوده.
كان الطعام بالنسبة للعرب مقدساً؛ فلكل مناسبة طعام خاص وتغنى به الشعراء قديماً للدرجة التي جعلت شاعراً مثل الأنبوطي يفرد له ألفية كاملة على غرار ألفية ابن مالك واسماها "ألفية الطعام"، ومثلما شق طريقه قديماً للشعر عاد ليشق طريقاً للرواية حديثاً.
في التقرير التالي، 3 روايات كان الطعام سيدها، وصاحب الكلمة الأقوى في خد سيرها.
في رواية "كحل و حبهان" للكاتب عمر طاهر والصادرة عن دار الكرمة. يبدو لنا الطعام موضوعاً أساسياً ترتكز عليه الرواية فـ"سيسكو" أو "عبد الله" بطل الرواية يُعرفنا عن عيبه الذي توارثه عن عائلته وهو "حب الطعام"، الذي لا يضاهيه شيء سوى حُبه المختلس لسحر ابنة الجيران السمراء النحيلة.
تأخذنا الرواية لزمنين أولهما الثمانينات، والحديث المهلة التي أعطاها والد بطل الرواية ليراقب سلوكه حتى ميعاد حفلة منير التي يتوق لحضورها مع خاله. تمر الأيام مثل امتحان. والزمن الآخر من 2008 حيث العمل والاستقلال وتفاصيل الوحدة في العاصمة التي انتقل إليها سيسكو"عبد الله" للعمل.
في البداية يحكي لنا عن مدينته الصغيرة محدودة التفاصيل ليضعنا أمام عالمه الصغير المتمثل في مطبخ أمه وعادات أبوه وجدته وحكايات خاله الذي يعد نافذته على عوالم أخرى مثل الغناء وحفلات منير.
و منذ الصفحات الأولى للرواية يأخذنا في رحلة تمتزج بين روائح المطبخ وروائح الناس وموسيقى منبعثة لمحطة الأغاني من راديو والدته المستقر في المطبخ. فهو مثل الكثير من جيلنا يحتفظ بمفكرة صغيرة يدون فيها كلمات الأغاني التي تشدو ألحانها ربما ليفكر بكتابتها لسحر في جواب لن يصلها أبداً.
الطعام يبدو خطا شاعريا في الحكاية لا يفارقها، فبينما يُعرفنا على لحظات خوفه، توتره، علاقته المتربصة بأبيه وتعلقه بأمه، يأتي الأكل في الكواليس؛ وكيف كان طبيخ الأم يربت على بطنه، وتفاصيل مطبخها المعبأ بشراشف صنعتها من الكروشيه والحائط الذي تطل منه صورة مديحة كامل المحتلة لغلاف الرواية.
و بين عالمه الضيق المراهق تنمو حواسه أكثر فيصبح كل شيء له مذاق ورائحة ونشاط بسيط؛ حتى صعوده سلالم بيته أضحى كرحلة متمرسة في مطابخ الجيران.
الطعام أصبح صديقا، مع انتقاله للعاصمة تبدأ بطنه في التعرف على المدينة بطريقتها الخاصة فيكوّن شلة تجوب القاهرة من شرقها لغربها بحثاً عن الطعام الجيد، لكن تلك الصحبة لم تستمر وانفضت واحداً تلو الآخر ليجد نفسه مجاوراً للوحدة ويعرف الديليفري طريقه إلى بيته، فتفسد شهيته.
حتى الحب كان الطعام مدخلا فارقا فيه، تخبره "صافية" عن علاقتها بطاسة التحمير التي صالحتها على الحياة بعد موت أبوها، فكانت تصحو ليلاً لتضع أي شيء في طاسة التحمير، فينفتح أمامه العالم ثانية و يعود المذاق لكل شيء.
الطعام في الرواية يبدو مثل أريكة مريحة لا تريد أن تتركها، مع تفاصيل النوستالجيا التي تمس جيل بأكمله، فتتحول الرواية لوجبة من الطعام المريح الذي تحبه ويملؤك بالرضا.
لكن الطعام الذي كان ركناً أساسياً في رواية "كحل وحبهان" لم يكن سوى مدخلاً لـ"سينتارو" في رواية "ملذات طوكيو" للكاتب الياباني دوريان سوكيغاوا، ليكتشف نفسه و يتعرف عليها.
سينتارو العابث في شبابه يدفع ثمن الفوضى التي صنعها وقتما كان يدير محلاً لبيع فطائر "الدوراياكي" وهي نوع من "البان كيك" الياباني بحشوة من الفاصوليا الحلوة.
وبينما يدير محله باعتيادية تقارب الملل وبخدمة متوسطة لزبائن قليلون، يلفت انتباهه عجوز أسفل شجرة تراقبه يومياً حتى تقترب منه في يوم وتشير إلى الملصق الذي وضعه لوظيفة شاغرة، وتطلب منه التقدم للوظيفة فيعتذر منها ويصرفها. ثم تجيء ثانية لتعطيه عينة من حشوة الفاصوليا التي تعدها وتغيب.
حينما يذوق تلك الحشوة يندهش ويقرر الاستعانة بها في الخفاء -لأن العجوز توشي تملك أصابعاً مشوهة ووجهاً نصف مشلول- تنخرط في العمل وتبدأ بإرباكه في تفاصيلها.
بعد أن كان المحل يجتذب عدداً بسيطاً من الناس صار مزدحماً، والعجوز التي كانت حركتها محدودة في المحل حتى لا ينزعج الزبائن من وجودها صارت جزءاً من المكان. وكل صباح تنهمك في إعداد الحشوة، يراقبها سينتارو في دهشة وبرغم مصاحبته لها في كل الخطوات يفشل مراراً في إعدادها بنفسه.
العمل المزدهر تقاطعه صاحبة المحل لخوفها على سمعة المحل لأن مجذومة تعمل فيه حتى وإن شُفيت منذ زمن وحتى لو كانت تصنع ألذ حلويات.
الحكايات عن الطعام تدخلنا في منحى إنساني؛ مع الوقت تفاجئنا توشي بحقيقة تشوه يديها فتفتح لنا باباً واسعاً للحياة في مستعمرة مرضى الجذام، تخبره كيف أن الحلويات قضت على غربتها وسجنها الطويل. وتأخذ سينتارو من يديه لتعرفه على معالم المكان الذي برغم انفتاحه منذ التسعينيات على العالم إلا أنه صار موحشاً مثلما كان دائماً.
ومثلما ازدهر عمل المحل خفت العمل ثانية مع رغبات صاحبة المحل لتغيير نشاطه لكن إصرار سينتارو على صنع الفطائر التي لا يجيدها كان غريباً و محاولاته التي تبوء بالفشل واستماعه لنصائع العجوز توشي التي تخبره كيف أنها رأت الحزن في عينيه دائما فيعرفها على ماضيه العابث والديون التي يستمر في سدادها لصاحب المحل بعد موته.
لكن الطعام الذي كان مدخلاً لسينتارو وتوشي لاستكشاف التشابه بينهما كان أسلوب حياة لـ"تيتا" بطلة رواية "كالماء للشيكولاتة" للكاتبة المكسيكية لاورا اسكيبل، التي تبدو للوهلة الأولى ككتاب طبخ بفصول تبدأ بوصفات للطعام وفهرس ممتليء بالمأكولات.
الراوية التي تنحدر من سلالة طباخين مهرة تحكي لنا عن جدتها تيتا الابنة الصغرى لإيلينا التي ولدتها في المطبخ وسط الطعام وأدوات الطبخ، ولشدة حزن إيلينا على وفاة زوجها ينقطع اللبن في ثديها وتعتمد على الطباخة ناتاشا في إطعام الفتاة التي نمت حواسها وترعرت في المطبخ فألقمتها ناتاشا كل أسراره ووصفاتها الخاصة لتصبح الابنة الوحيدة التي تفهم في المطبخ وسط أختين لا يعلمن شيئاً عنه.
الطعام بالنسبة لتيتا كان المهرب من تحكمات والدتها القاسية ومن أسلوب الحياة التي اعتمدته والدتها التي أخبرتها أنها كابنة صغرى لن يكون مصيرها سوى خدمتها، لا الزواج ولا الأمومة و لا أي شيء. و هو ما اعتبرته تيتا حكماً قاسياً فأفرغت بدورها شحنتها في المطبخ مع ناتاشا؛ ففي غمرة حزنها على زواج أختها الكبرى من بيدرو حبيبها تصنع قالب حلوى مخلوط بدموعها يتسبب بموجة حزن شديدة تفسد الزفاف.
و تارة أخرى تغير بطعامها مصير أختها الثانية إذ أنها تصنع من بتلات الورد الممزوجة بدمائها طعام يتسبب في هرب شقيقتها وعملها لفترة في ماخور ثم زواجها من أحد قادة الثورة المكسيكية.
لكنها لا تتقبل مصيرها بروية فبعد إبعاد أمها لأختها وزوجها تتمرد عليها فيتلقفها الطبيب الذي أحبها حباً هادئاً، لتصل لحكمها النهائي فترسل لأمها مرسالاً بأنها لن تعود إلى البيت ثانية.
من الصفحة الأولى للرواية نجد أنفسنا دوماً أمام تلك الاختيارات التي تعيدنا لسيسكو واختياراته الهادئة المريحة في الطعام والحياة مع صافية، وبين سينتارو الذي يختار من الطعام صنفاً واحداً ليصنعه بإخلاص وتحت توجيهات العجوز توشي التي تشبهه، وبين تيتا التي تختار الأصعب و الأقرب دوماً لعاطفتها وتتبع إحساسها في الطبخ.
فيديو قد يعجبك: