الحلقة الرابعة | أطباء عالجوا أكثم.. يتحدثون عن ذكرياتهم مع المعجزة والزلزال

اهتزّ أكثم وزُلزلت حياته. عندما أنجب قرر أن يُسمي ابنته "سميرة" تيمُنًا باسم والدته.. لم يكن يعلم أنه سيفقدهما معًا.. فقد والدته بعد أن خيم عليها الصمت ولم تُجب نداءاته، أيقن باقتراب نهاية طفلته سميرة، ارتفعت درجة حرارتها بجنون، أُصيبت بالحُمى، وصارت تهذي، ثم صمتت حتى النهاية. انهارت زوجته "تنسيانا"، ولم تعد تتحمل، شعُرت باختناق شديد، خلعت حليها الذهبية ثم رمتها بعيدًا، ورحلت فيما كان يُمسك "أكثم" بيدها اليُسرى حتى ذبُلت عروقها...

الدنيا لا تساوي شيئًا.. ما فائدة أن يكون معك كل شيء، أموال وشقة تطل على أفضل ميدان بمصر الجديدة وعمل مُستقر، ويموت الأحبة بين يديك وتعجز عن تقديم شيء لهم، هكذا تحدث "أكثم"، الذي ظل وحيدًا وسط الظلام والرائحة الكريهة التي انبعثت من جُثث الموتى. كان عندما يشعر بالعطش يقطع جزءًا من جلابيته التي كان يرتديها ثم يُبللها بـ "البول" ويضعها في فمه، لدرجة أنهم عندما أخرجوه كان شبه عارٍ.


أكثم في المستشفى

تعوَد أكثم أن يبدأ حياته من جديد، يوم عاد إلى مصر من إيطاليا ومعه زوجته، أودع 10 آلاف جنيه في شركة "الهلال"؛ لتوظيف الأموال -وقتها-، وضاعت أمواله ولم ييأس وبدأ من جديد، وخلال وجوده في روما، خسر آلاف الجنيهات، ولم ييأس، حتى يوم تخليص سيارته من الجمرك، سُرقت أمواله، لكنه أصر على استمرار حياته. فقد أحبابه وأعز ما يملُك، وقاوم حتى نال الحياة.. هكذا تحدث عنه صديقه المُقرب "محمد صالح"، الذي تعرفنا إليه من واقع أرشيف الصُحف، والذي حاولنا العثور عليه لكن دون جدوى.

التفنيد والبحث للوصول إلى أفراد شجرة "معارف أكثم" –وفقًا لأرشيف الصحف-، كانت مُعظم نتائجه مُخيِّبة للآمال، فإما أسماء متوفاة، أو أخرى لا توجد عنهم أي معلومات، أو شخص مجهول يُدعى "سعيد الجارحي" قال عنه أكثم إنه هو الذي أنقذه، واكتشف صوته من تحت الركام، ودلل أكثم وقتها على عنوانه بمنطقة العجوزة، وذهبنا إلى المنطقة للبحث عن "سعيد الجارحي" لكن دون جدوى.

ضيقنا مسار البحث، وظهرت لنا نتائج مُبشرة مُتعلقة بأحد أقاربه ويُدعى "نابغ عبدالقادر" كون اسمه مميزًا جدًا، فضلاً عن أسماء الأطباء الذين باشروا علاجه، إضافة إلى العميد عبدالغفار منصور، والذي تواصلنا مع ابنه.

كان العميد عبدالغفار منصور خبيرًا بمنطقة مصر الجديدة والنزهة وما يجاورها، لذا عينوه مُشرفًا على عمليات الإنقاذ، كونه يحفظ المنطقة عن ظهر قلب، ما إن علم بوجود شخص حي تحت الأنقاض بعد اليوم الرابع من الزلزال، حتى انغمس وسط رجاله، محاولًا إخراجه بالتعاون مع الفريق الأجنبي الذي كان متواجدًا. كان "منصور" يروي حكايات الزلزال لأولاده، ومنهم "محمد "، والذي يتذكر جيدًا "أكثم".

تواصلنا مع نجل العميد عبدالغفار منصور هاتفيًّا؛ ليحكي ما حدث: "والدي طلع من الحادث دا بإصابة في راسه تسببت في تجمع دموي، وبعد مرور السنوات، أصيب والدي بورم حميد في نفس مكان الإصابة حتى تُوفي". يُشير "محمد" إلى مُعجزة الزلزال: "أكثم، جالنا البيت هو وأخته الدكتورة إلهام وعزمناهم على الغداء.. فاكر اليوم ده كويس.. كانت الزيارة بهدف إنه يقدم الشكر لوالدي ولفريق الحماية المدنية كلها".

كان أكثم صامتًا طوال الزيارة، لا يتحدث سوى القليل، يسرح بخياله كثيرًا، لكنه كان عندما يتحدث تتطرق آذاننا جميعًا إليه. لكن "محمد" لا يعرف مصير "أكثم" الآن، هل ما زال حيًّا، وأين ذهب بعد الزلزال؟!.

كان هناك كونسلتو من الأطباء في مختلف التخصصات الذين كانوا متواجدين داخل مستشفى هليوبوليس الذي تحول إلى ما يشبه المعسكر، لا يغادرونه، ومهما طال من العمر، سيظل داخل عقول هؤلاء الأطباء مساحة غير منسية للحادث الأليم الذي مر عليهم. "حسن المنشاوي، ناجي إسكندر، هاني زكي، جمال الشيخ، مصطفى زيدان، يحيى صادق.. وغيرهم، إضافة إلى طاقم التمريض، علاوة على العمال، جميعهم كوَّنوا مجموعة عمل؛ للإنقاذ وتقديم الدعم.

الدكتور حسن المنشاوي، الحادث لا يغيب عن ذاكرته أبدًا، الذي تعجب؛ لأننا من أوائل من ذكرناه بالحادث منذ أكثر من 28 عامًا.

عام 1992، الدكتور حسن المنشاوي، كان يُحضر رسالة الماجستير خاصته، هو طبيب المخ والأعصاب، وكان تعيينه داخل مستشفى هليوبوليس، مرت عليه لحظات عصيبة، دماء، انهيارات عصبية، صُراخ وعويل، أقارب يبحثون عن ذويهم، ويعجزون عن التعرف عليهم بسبب الحدث الجللّ الذي حطم الأجساد والأنفُس.

custom-preview

"كان اللي بيدخل المستشفى من الدكاترة يقعد ويكمل.. واللي كان قاعد ميخرجش.. يعني كان اللي بيدخل المستشفى مننا مبيخرجش.. لحد ما طلع أكثم".. خروج أكثم كان بالنسبة -للدكتور حسن المنشاوي وزملائه- بمثابة الراحة؛ لأنهم منذ وقت وقوع الحادث، ومع مرور الساعات، ومع ظهور أخبار تُفيد بوجود صوت من تحت الأنقاض يُشير إلى وجود من يتمسك بالحياة، كان الأطباء يتمسكون هم الآخرون بالأمل في الإنقاذ، يقول المنشاوي إنه من شدة هول الحدث؛ ظلوا داخل المستشفى لأسبوع كامل.

يتذكر "المنشاوي" الأمر جيدًا، بعد أكثر من ثلاثة أيام، ملأت الزغاريد أرجاء المستشفى، وكان أول من استقبل أكثم: "أي شخص يأتي من حادث سقوط من ارتفاع بيخش تحت تشخيص ارتجاج في المخ وإصابة في البطن"، بعد الفحص اطمأن الشناوي على "أكثم"، لم يُصبه شيء، ولكن هول الصدمة عليه كان شديدًا: "كان مصدومًا لكنه كان حامدًا ربه -طبعًا- أنه موجود.. لأن فيه ناس كتير راحت في الحادث دا"، سأله المنشاوي: "كنت بتشرب إزاي"، أجاب أكثم: "من البول"، ثم أكمل: "لقيت بصيص نور من بعيد.. قلت أكيد أنا قريب وممكن يطلعوني...". يصعب على "المنشاوي" التحدث في التفاصيل: "حدث يتعاش أكتر منه يتحكى".

الدكتور هاني زكي، استشاري جراحة المخ والأعصاب بمستشفى وادي النيل، كان أيضًا أحد المستقبلين لأكثم فور إنقاذه من تحت الأنقاض، يتذكر الحدث الجلل، رغم مرور السنوات: "فاكر كويس جدًا وقت ما فحصناه، وأكتر حاجة فاكرها إنه كان بيُعاني من جفاف شديد، نتيجة عدم حصول جسده على الماء الكافي، واعتماده في النجاة على البول". لا يتذكر أين ذهب أكثم: "كنا وقتها مشغولين بالحدث.. لأننا كنا في حالة طوارئ، وكان كل همنا فقط تطبيب المصابين".

يتذكر زكي الحالة الصحية لأكثم، حيث لم يكن يُعاني من شيء، سوى كسر في مشط قدمه، نتيجة العمود الخرساني الذي كان فوقه، و سوى ذلك فنتائج تحاليله كانت مُطمْئِنة، وحالته العامة كانت جيدة؛ نظرًا لطبيعته الجسدية القوية.

لم يعرف أفراد "الشجرة" مكانًا لأكثم، أو معلومات تُفيد بوجوده في الحياة من عدمه.. شعُرنا أن جميع الأبواب سُدت، لكننا تمسكنا بالأمل، قررنا التواصل مع آخر خيوط شجرة العائلة التي صنعناها لأكثم.. خُضنا محاولات عديدة للوصول إلى نابغ عبدالقادر، والذي عرفته الصُحف وقتها بـ"ابن خالته"، فيما عرفته صحفٌ أخرى بأنه صديق أكثم المُقرب...