في الأصل أكثم خريج كلية الزراعة دفعة 1981، لكنه أنشأ مكتبًا سياحيًا بميدان الإسماعيلية بمصر الجديدة، كان أكثم مُنظمًا ودقيقًا للغاية، يذهب مبكرًا إلى عمله، وفي تمام الثانية ظهرًا يعود صوب شقته التي كانت تحمل رقم 19، وتحتل الدور السابع بعمارة "الحاجة كاملة"، يجلس مع ابنته سميرة صاحبة الثلاث سنوات، يُداعبها ويُناكفها، حتى تأتي الثالثة عصرًا، لتُصبح سُفرة الغداء جاهزة.. لكن يوم الاثنين 12 أكتوبر 1992، كان مُختلفًا في أحداثه، فبعد الغداء، كانت "سميرة" تود أن تغسل يديها، أخذها أكثم صوب الحمام، طلبت مياهًا مُثلجة، فداعبها "أكثم": "طيب ما تشربي بيبسي وخلاص يا حبيبتي؟!"، وقبل أن يسمع ردها، بلعتهم الأرض جميعًا، استلقت أجسادهم في كهف الموت.
تمنت طفلته "سميرة" وسط الظلام الدامس رشفة بيبسي أو قطعة شيكولاته، فعرض عليها والدها شُرب "البول"؛ لترفض، وسط صمت يتخلله أنين المصابين الآخرين من العقار والذين جاوروا أكثم تحت الأنقاض.
كان ميدان هليوبوليس مقلوبًا رأسًا على عقب. الأهالي قبل رجال الحماية المدنية يساعدون ويتطوعون لإنقاذ مُصاب أو استخراج جُثة، صورة ضبابية للعُفار والغُبار، يتخللها أصوات الحفارات، أنين المصابين، نحيب الأحباب بسبب الفقد، أكوام من الركام لعقار شاهق كان الأعلى في ميدان هليوبوليس، وكان تحت هذا الركام يرقد أكثم، وبداخله ألمٌ فذّ، ليس ألمًا جسديًا أو عضويًا، ولكنه ألمٌ نفسيٌ، يقاوم لأخذ الشهيق، ربما كان يوفره لزوجته أو ابنته أو لوالدته، حتى تُكتب لهم النجاة، لكن انقطاع أصواتهن من حوله، والسكون الذي عمّ الظلام الدامس، جعله مُوقِنًا بأنهم قد ذهبوا بعيدًا وتركوه، يُناضل أو يستسلم.
فقد أكثم تحت الركام جميع الأحباب، أصوات البلدوزرات يسمعها، صرخاته المُنهكة تسري في الفراغ دون جدوى، يشعر أن النهاية اقتربت، وحياته على المحك. كانت الأصوات تقترب، يسمعها "أكثم" انهيارات، يخشى من انهيار العمود الخرساني الذي حال دون أن يُسحق دماغه وجسده، لكن بعد دقائق حالف أكثم الحظ، عندما قامت شوكة البلدوزر برفع جزء من الركام مع بطانية، بعدها شاهد "أكثم" بصيص نور، ليهمّ بالصُراخ.
لحُسن الحظ، كان أحد العمال يُدعى سعيد الجارحي متواجدًا بالقرب من مصدر صوت "أكثم"، ذهب وأخبر رجال الحماية المدنية، وعلى رأسهم العميد عبدالغفار منصور: "يا باشا أنا سامع صوت طالع من هنا"، اقترب "الجارحي" ومعه العميد منصور من مصدر الصوت، ووجد "أكثم" راقدًا يحول دون حركته كتلة خرسانية تشُلّ قدميه.. التف الجميع بجوار "الجارحي"، وأخرجوا أكثم، لكن قبل ذلك كان للعقيد عبدالغفار منصور –المشرف على عمليات الإنقاذ-وفريق الإنقاذ الفرنسي دور مهم، ووضعوا كمرات خشبية حول جسده حتى لا تنهار الأنقاض عليه، وأثناء المسافة من مكان الانهيار وحتى مستشفى هليوبوليس، زف الجميع "المُعجزة"، فيما استقبلته الممرضات بالزغاريد، وكأنه أذاب قسوة مشاهد الدماء والجُثث والحُزن الذي عمّ الجميع.
كان لا بُد لنا من إكمال خيوط القصة. في بداية رحلة البحث، تواصلنا مع المُحيطين، ثم ذهبنا صوب مستشفى هليوبوليس، لكن الروايات كانت متضاربة حول أكثم، ولذا كان لا بد لنا من الذهاب إلى الهيئة العامة للكتاب والوثائق، للغوص في أرشيف الصُحف، ولمحاولة جمع خيوط جديدة وروايات على لسان أكثم نفسه، والتي وجدناها في أرشيف الصحف، منها حوار قديم ومُختلف لجريدة "السياسي المصري" تصدر مانشيت أكثم عددها، كشف فيه أكثم عن مدى سوء تعامل الدولة مع الحدث، وأن قيامهم –على سبيل المثال- برش المياه لإزالة العُفار كان سببًا في قلة وصول الأكسجين للضحايا تحت الركام، لكنه برر ذلك بأن مصر لم تكن تعرف ما معنى الزلزال، وأنا ما حدث وجرى كان أكبر من الدولة وإمكانياتها وقتها. عام 1983، وبينما كان "أكثم" مُنغمسًا في عمله بالسياحة، كان من بين الوفود التي استقبلها، وفد إيطالي، كانت من بينهم "تنسيانا"، تعرف عليها، ونشأت بينهما قصة حُب. سافر معها إيطاليا وكللا قصة حُبهما بالزواج في روما عام 1988، ثم ساعدته زوجته في تسهيل التواصل مع الوفود السياحية، وشاركته في عمله بمكتب السياحة الذي يملكه بميدان مصر الجديدة، لكن بعد كارثة الزلزال، قرر "المُعجزة" الابتعاد عن المجال تمامًا.
عندما جاء الزلزال بقوة 5.9 ريختر؛ اهتزت مصر، قطع حينها الرئيس حسني مبارك زيارته التي كانت في الصين، فيما أشارت الأرقام الأولية إلى مصرع وإصابة الآلاف، صارت سيارات الإسعاف تجوب بين الشوارع لنقلهم للمستشفيات، يحاول المتضررون الاحتماء داخل خيمٍ وفرتها لهم الحكومة، فيما يبكي آخرون لفقد الأحباب، ظهرت شهامة أولاد البلد، ولاح الضعف يتسلل داخل أصحاب النفوس الضعيفة، الذين انغمسوا وسط الركام بهدف "السرقة"، انقلب ميدان هليوبوليس، فيما فاز نادي هليوبوليس لكرة الماء واستعاد توازنه بعد أن سحق نادي ريفييرا السويسري بنتيجة تاريخية (25/ 4).
داخل ذلك المبنى العتيق، دار الكتب والوثائق؛ غُصنا وسط أرشيف جرائد ومجلات بتواريخ مُحددة، والذي ربما أبرز ما فيه ما حدث يوم 15 أكتوبر وما يليه، عندما انسلخ "أكثم" من الموت حيًا.
تصدر أكثم مانشيتات الصحف والمجلات فور خروجه.. صحف: "الأخبار، الأهرام، الجمهورية، الخميس، السياسي المصري، وآخر ساعة"، اهتم بشكل مُكثف بقصته، صحفيون ومصورون منهم: الزميلة ثناء رستم، والمصورون الصحفيون: (مكرم جاد الكريم – سيد مسلم – توني فارس - إبراهيم مسلم – محمد يوسف – يوسف ناروز – عادل حسني – محمد رجب – محمد عبدالفتاح – حسين القاضي – طارق شبانة – مصطفى رضا...)، والعديد من الأساتذة الذين غطوا الحدث الجلل.
داخل غرفة 709، بمستشفى الشرطة بالعجوزة، استقر جسد أكثم، -كما جاء في أرشيف الصحف في تلك الفترة؛ ليتطابق ما أخبر نا به "عم طلعت" في مستشفى هليوبوليس مع الأرشيف-، ثم خرج سالمًا واختفى. و كان للكاتب الكبير نجيب محفوظ مقال تناول فيه آثار الزلزال، وضرورة سرعة تسكين الحكومة للأهالي المُتضررين، ووجوب اكتساب الخبرة من الكارثة.
تفاصيل الأرشيف والحوارات الصحفية لأكثم، قادتنا إلى عددٍ من الأسماء، استطعنا من خلالها صناعة شجرة لمن كانت لهم صلة بالمعجزة، تشمل أطباء عالجوه وأقاربه وأصدقاءه ومن تعامل معه في محيط موقع الزلزال. الشجرة التي صنعناها وصلنا من خلالها إلى خيوط أمل جديدة.. وشخصيات جديدة كانوا أبطالاً داخل الحدث الجلل وقابلوا أكثم وجهًا لوجه...