بالاتجاه إلى عمق مصر وجنوبها أكثر؛ يتبدل المناخ وتأثيره تمامًا، حيث درجات الحرارة المرتفعة والأمطار المفاجئة التي تصل حد السيول.
فمنذ شهر تقريبًا، ضربت عاصفة محافظة أسوان، ولقى أشخاص مصرعهم، بينما أصيب آخرون بلدغات العقارب بعدما جرفتها السيول والرياح. أرجع محمود شاهين، مدير مركز التحاليل والتنبؤات بهيئة الأرصاد الجوية، ذلك إلى التغيرات المناخية: "جعلت بعض الظواهر الجوية حرجة وعنيفة.. نحن نشهد نوبات طقس جامحة".
في هذا الوقت؛ أعلنت محافظة سوهاج، عن رفع درجة الاستعداد القصوى تحسباً لسقوط أمطار أو حدوث سيول، وهو ما جرى بقرية أولاد يحيى شرقها.
أما في غربها بمسافة تبعد حوالى 21 كم؛ فكان أحد الأديرة الآثرية القديمة ويسمى "الدير الأحمر" يحاول أن يحمي نفسه.
فعلى قدم وساق؛ حاول مسؤولو قطاع الآثار الإسلامية بالمجلس الأعلى للآثار بالتعاون مع مركز البحوث الأمريكي الانتهاء من أعمال تركيب مظلات لحماية الرسوم الجدارية الأثرية الموجودة بـ"الدير الأحمر" من الأمطار المتوقع سقوطها في هذه الفترة، أو من حرارة الشمس المعتادة بالمنطقة.
ذلك لأن هذا الدير يعد نموذجا فريدًا للعمارة البيزنطية لدرجة أن المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة "إيسيسكو" أدرجته في 2012 على قائمة "التراث العالمي للعالم الإسلامي" كأول مبنى أثري مصري يُضاف لقائمتها، رغم عدم شهرته في مصر.
بالتأكيد لم يكن في بال مؤسس الدير والرهبان القدامى الذين سكنوه غير اختيار مكان مناسب للعزلة والتفرغ للعبادة. ولم يتوقعوا أن موقعه في صحراء "أدريبة" القاحلة الجافة سيكون هو سبب بقائه ونجاته لقرون.
السبب الأساسي الذي حافظ على الدير، كما يقول أنطونيوس الشنودي، المسؤول عنه وأقدم رهبانه الـ25؛ هو "الطقس الجاف"، الذي لم يعد ثابتًا كما اعتاده الراهب العجوز سوهاجي الأصل والنشأة: "بدأنا نشعر بتغيرات.. يمكن أن نجد الجو شديد الحرارة والبرودة في اليوم نفسه.. لكن مازالنا في مأمن لقلة الأمطار والرطوبة".
لكن بمرور الزمن، صار هذا الموقع الذي جعل الدير ينجو هو نفسه الذي يهدده؛ حيث انتشرت المساكن والمزارع حوله، ما جعله يعاني من مياه الصرف التي تصب في الجبل المجاور له، ومن انتشار النمل الأبيض الذي يأكل في أسقفه الخشبية؛ لذا يحاول مركز البحوث الأمريكي منذ عام 2003 أن يرمم الدير بجميع مكوناته وأيقوناته النادرة بتمويل قدره 50 مليون دولار تقريبًا.
وسيرًا على مبادئ الرهبنة؛ يقول الراهب انطونيوس إنه ومن معه عليهم أن يتحملوا أي صعاب يلقونها، وقد يصبح المناخ واحدة منها كالسيل الذي هاجم منطقتهم قبل سنوات: "لكن نتمنى أن تتحمل جدران الدير مثلنا".
على مسافة 60 كم جنوب الدير الأحمر؛ يقع معبد "أبيدوس" أحد أهم المعابد الفرعونية بسوهاج. وعلى طول الخط الجنوبي تتوالى مدن تزخر بآثار مصرية قاومت عبر الزمن.
إلا أن الأمر الآن استدعى تحذير منظمة الأمم المتحدة للبيئة من الأحوال الجوية غير المنتظمة: "كثيرًا ما تعود إلى التغير المناخي وتؤثر سلبا على الحجارة القديمة بجنوب مصر".
فتذكر أن "الأمر المقلق هو ارتفاع درجات الحرارة في الصيف؛ فيبدو وكأنه يترك بصماته على لبنات البناء. فعندما ترتفع في أسوان لأكثر من 40 درجة؛ تؤثر على الجرانيت، حيث يتمدد في الشمس ثم ينكمش في درجات حرارة أقل.. وثمة ضرر يحدث خلال الشتاء رغم أنه نادر الحدوث، إلا أن الأمطار الغزيرة تدمر المباني القديمة من الطوب الطيني".
ربما يكون مصطلح "التغيرات المناخية" مستحدثا، لكن النصوص القليلة تشير إلى أن المناخ كان متغيرًا أيضًا قبل آلاف السنين.
فيقول فرنسيس أمين، الباحث الآثري والمولود بالأقصر، إن هناك نصاً عبارة عن صلاة لآمون تعني الشعور بطقس حار وبارد في توقيت واحد وأن هناك تداخلاً بينهما، كما يذكر المؤرخ هيرودت في كتابه أنه حين زار مصر عام 450 ق.م؛ اشتكى له الكاهن عدم سقوط أمطار منذ 800 عام، وكان هذا أمراً غريباً.
وعليه؛ بإمكان "أمين" القول بأن التغيرات المناخية والظواهر غير المعتادة كانت تحدث في مصر القديمة. بل ويضيف على ذلك مؤشرًا آخر وهو أن هناك حيوانات كانت تعيش في مصر مثل فرس النهر وطائر الأبيس ثم اختفت.
لكن يبدو أن المصري القديم أدرك ذلك وتعامل معه بذكاء.. يكمل "أمين": "كان متقدماً في علوم الفلك ورصد الظواهر وأخذ احتياطاته تجاهها؛ فجدران معبد الكرنك تسجل أن هناك ترميماً للأسوار الضخمة التي كانت تحمي المعابد وأنهم انشأوا قناة حوله لامتصاص المياه.. لذلك بنوا معابد بأساسات قوية لم تتأثر على مر السنين بفيضان أو أمطار".
باستثناء قلعة قايتباي؛ ففي الوقت الذي تعلن فيه مصر اهتمامها الكبير بقضية التغيرات المناخية وتبنيها أهدافاً للحد من هذه الظاهرة كإيقاف تدهور البيئة، والحفاظ على التوازن بين النمو السكاني والموارد الطبيعية، والاستفادة من الطاقة المتجددة؛ تغيب أي تصورات معلنة حول حماية المباني الآثرية على المدى الطويل.
لم نتلق ردًا من مسؤولي وزارة السياحة والآثار عن هذا الأمر. في حين ترى سهير حواس، أستاذة العمارة والمشرفة على مشروع تطوير القاهرة الخديوية سابقا "أنه بالرغم من مشروع إعادة الوجه الحضاري للقاهرة التاريخية، إلا أنه يخلو من أي برامج صيانة وقائية".
فيما يبقى وضع الإسكندرية ومبانيها غامضًا إلى حد ما. فيتحدث عماد خليل، أستاذ الآثار البحرية بجامعة الإسكندرية، خلال محاضراته عن فنارها القديم، وهو إحدى عجائب الدنيا السبع، الذي انهار وسقط مع الكثير من آثار المدينة في المياه نتيجة الزلازل، وحلت مكانه قلعة قايتباي التي يحاولون حمايتها الآن: "لا يمكننا توقع ما سيحدث.. هل ستجدي وسائل حمايتها؟ أم ستلقى مصير الفنار والآثار الغارقة؟".