بين ذراعي أمِّه، كان «يونس» يلتمس الدفء والمحبة والطُمأنينة، لكنه حُرم من ذلك بغتةً، فلم يعد يرتمي في أحضانها، لا يسمع منها حكاية ما قبل النوم، ولا تضم شقيقه «يامن» إلى صدرها، إذ فطمته عن الرضاعة مبكراً، بعدما صار اختلاطها بطفليها في أضيق الحدود، فلا عناق ولا لعب، كضريبةٍ تدفعها «أسماء النمر»، طبيبة الصدر، في فترة صعبةٍ على الأطقم الطبية في مصر.
داخل مستشفى صدر العباسية، تستقبل أسماء حالاتٍ مشتبهًا في إصابتها بفيروس «كورونا» المستجد لفحصهم، وتتَّخذ تدابير تُجنِّبها مرض «كوفيد-19» خوفاً على نفسها وأسرتها: «أول ما عرفنا بكورونا، تأكدنا إن مسؤوليتنا كأطباء صدر هتكون كبيرة» تحكي الطبيبة، التي لاحظت أواخر 2019 زيادة حالات الالتهاب الرئوي، وكان المرضى يُشفون من تلقاء أنفسهم أو يسبقهم الموت، وتُخمِّن أن يكون لذلك علاقة بالفيروس.
يُفرز المستشفى الذي تعمل به أسماء، المشتبه في إصابتهم، ويُجري لهم مَسحات، واختلطت الطبيبةُ بحالاتٍ ثبتت إيجابية عيِّناتهم للمرض، ما عمَّق الفجوة بينها وبين أسرتها، فخصَّصت لنفسها أدوات منزلية: «ومبقتش بحضن عيالي ولا ببوسهم، ولا بعملهم أكل، وباباهم اللي متولي رعايتهم».
في المنزل كان «أحمد نور» زوج الطبيبة، يحاول قدر الإمكان تعويض طفليه عن غياب أمِّهما، التي لم يعد بإمكانها رعاية الصغيرين كسابق عهدها خوفاً عليهما، يلاعبهما الأب، ويجهز لهما الأطعمة المختلفة، ويشاركهما أنشطتهما على مدار يومه، مستغلاً عمله من المنزل، خلال تلك الفترة.
خوفُ الأم على أسرتها يتزايد يوماً بعد يوم، فهي واحدةٌ من أطباء مستشفيات الصدر والحميات المقدَّرة بـ81 مستشفى في مصر، باتت على رأس الأماكن التي تقدم خدمات علاجية وطبية لمرضى «كوفيد-19»، ومنذ الإعلان عن ظهور الفيروس في مصر، وحتى الـ19 من إبريل الماضي، قدَّمت خدمات لأكثر من مليون ونصف المليون من المترددين عليها أو المشتبه في إصابتهم بالفيروس، بمتوسط 25 ألف حالة تتردد يومياً، وفقاً للدكتورة هالة زايد، وزيرة الصحة، ولم تعلن الوزارة بعد ذلك أعداد المترددين على تلك المستشفيات.
كانت العدوى تنتقل إلى الأطقم الطبية، أُصيب 291 منهم وتوفي 11 طبيباً، بمستشفيات الحميات والصدر والعزل، منذ بداية الجائحة وحتى 25 مايو الماضي، وفقاً لوزارة الصحة، فيما قالت نقابة الأطباء إن الوفيات بلغت 19 طبيباً، بالنظر إلى المستشفيات الأخرى، قبل أن تزداد أعداد المصابين منهم إلى 950 حالة بنهاية يونيو الماضي، ومع مطلع سبتمبر الماضي كان ستة آلاف طبيب من المصابين بالوباء، قد تقدموا بطلب صرف الدعم المالي الخاص بهم من نقابة الأطباء، فيما وصلت أعداد الوفيات بسبب «كورونا» إلى 185 طبيباً، في أوائل أكتوبر الجاري، بحسب النقابة.
أمورٌ عايشتها أسماء التي أُصيب بعض زملائها بالمرض، وانتقلت العدوى لأسرهم. تماماً كما حدث مع ممرضة بالمستشفى كانت تبكي بعد علمها بإصابة والدها ووالدتها بالفيروس، فتُطمئنها الطبيبة وتخبرها أنهما سيتعافيان سريعاً، بينما كانت آهات المرضى وأنَّاتهم تتصاعد من غرف الحجر الملاصقة لمكتب الطبيبة، فتذهب للاطمئنان عليهم، ثم تعود لاستكمال فحص التقارير الطبية والأشعة، وهي تدون عليها إحدى كلمتين «إيجابي أو سلبي».
كان ذلك في ظل شكاوى الأطباء من نقص مستلزمات مكافحة العدوى بالمستشفيات، ومناوشاتٍ تابعتها أسماء، حين اتَّهمت نقابة الأطباء وزارة الصحة بتقاعسها عن حماية الأطقم الطبية، تبعها لقاء بين الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، والدكتور حسين خيري، نقيب الأطباء، لمناقشة مشكلات الأطباء ومطالبهم، على رأسها إجراء مسحاتٍ للأطقم الطبية المخالطة للمصابين بـ«كورونا» ليُبدي رئيس الوزراء استعداده لحل الشكاوى.
عقب ذلك اللقاء بأيام، وفي أحد مؤتمراته، علَّل «مدبولي» زيادة وفيات المصابين بالوباء، بعدم انتظام بعض الأطباء بالمستشفيات، لتطالبه نقابة الأطباء بالاعتذار، والنظر لأسباب الوفيات الحقيقية، كالعجز الشديد في أسرِّة الرِّعاية المرَّكزة. فيما قال متحدث الوزراء إن «المقصود وقائع استثنائية لا تؤثر على صورة الأطباء». هذه الصورة تحدَّث عنها الرئيس عبد الفتاح السيسي حين قال إن «من حق المصريين الافتخار بتضحيات الأطقم الطبية». تلتها تصريحاتٌ لمدبولي في زيارته لمنشآت طبيةٍ في محافظة أسوان، أعرب فيها عن تقديره للأطقم الطبية وما بذلوه من مجهوداتٍ خلال أزمة «كورونا».
تُتابع الطبيبة مشاهد الاحتفاء بمجهود الأطباء، لكن مشاهد أخرى سلبية في بداية الجائحة، مثل تجنُّبهم، ورفض دفن من تُوفي منهم متأثراً بالفيروس في بعض القرى، أمورٌ أحزنت أسماء، على أن ذلك لم يزدها إلا إصراراً على استكمال عملها، بما في ذلك من قلق متزايد، بعد تحويل المستشفى الذي تعمل به إلى مكان عزل للمصابين بالوباء، ومسؤوليتها عن أحد أقسام العزل، ضمن خُطةٍ شملت 35 مستشفى صدر آخر، قبل أن تُكلف بعد ذلك بأشهر بالعمل مديراً لقسم الطوارئ بالمستشفى.
في الثامنة صباحاً تبدأ أسماء العمل، قبل أن تُتمَّه في المساء، وفي طريقها من وإلى المنزل ترتدي قناعاً طبياً، وتتجنب الاختلاط بالمواطنين قدر استطاعتها، وعند عودتها لمنزلها، بعد يوم عمل شاقِّ، تقضي ليلاً ثقيلاً، وهي شبه معزولةٍ عن الأسرة.
في المنزل تراقب الطبيبة أطفالها من بعيد، تحدِّثهم من مسافة آمنة، يشتكي لها صغيرها يونس من تصرفاتها، فتتماسك عن البكاء وهي تشرح له ضرورة ابتعاده وشقيقه عنها مؤقتاً، فإذا ما حاول الاقتراب منها صدَّته بإشارة باليد، فينصاع وكله حزن: «وبيصعب عليا جداً في المواقف اللي شبه دي». كان باستطاعة أسماء أن تأخذ إِجازة خلال تلك الفترة العصيبة، لإصابة في قدمها نتيجة حادث، لكنها آثرت العمل، تخفيفاً على زملائها: «ومستنية الكابوس ده يخلص عشان بس أرجع أحضن عيالي».
خوفاً على طفليها، امتنعت طبيبةُ الصدر مبكراً عن إرسالهما إلى الحضانة، كان ذلك قبل أن تقرِّر وزارة التضامن الاجتماعي تعليق كافَّة أنشطة الحضانات في مصر، تزامناً مع تعليق المدارس والجامعات على مستوى الجمهورية، وذلك بعد نحو شهر ونصف الشهر من انطلاق الفصل الدراسي الثاني، لترتبك العملية التعليمية برمَّتها إلى حدٍ كبير، وربَّما إلى غير رجعة.