كان ليلُ العاصمةِ طويلاً، ساحراً بأضوائه، فاتناً بنيله، مزدحماً بمحبيه. وفي شارع «الألفي»، الذي يُعدُّ تجسيداً لوسط القاهرة، كان الصخب لا مثيل له، الزحام، الموسيقى، أدخنة النرجيلة، رائحة إعداد الطعام، جزءٌ من طبيعته، لذلك لم يُخلف «حسن عابدين» مقابلة رفاقه في الشارع منذ 30 عاماً، لكن ذلك صار مستحيلاً في «ليالي كورونا»، التي أَطفأت أنوار القاهرة.
على مقربة من المطعم، كان «إسلام أحمد» أحد العاملين في مقهى، يتَّجه إلى منزله، الساعة تُشير إلى الثامنة مساءً، لكن السكون حوله، واختفاء الأقدام من شوارع العاصمة، يشبه الدقائق التي تسبق الفجر: «استحالة كان يبقى ده منظر وسط البلد في أسوأ الأحوال» قالها الشاب الذي تأثر دخله مع قرار الإغلاق الجزئي للمقاهي، المُقدَّر عددها بنحو مليوني مقهى في مصر: «لدرجة إني قبضت في يوم 35 جنيه بس عشان مفيش شغل».
لم يكن حظر التحرك قد أُعلن عنه بعد، فكانت قِلةٌ تتجوَّل في محيط وسط القاهرة، يرتدي بعضهم أقنعةً طبية، ومن حولهم الملاهي الليلية ومراكب النيل والمطاعم والكافيهات مُظلمة مُغلقة، و«حناطير» الكورنيش بلا عمل في غياب المتنزهين. تغييرٌ اتَّخذ شكلاً أصعب في بضعة أيام، بإجراءات احترازية أخرى لمواجهة الوباء، امتدَّت إلى تعطيل مؤقت لبعض المصالح الحكومية.
كان مؤمن مدير المطعم، وإسلام عامل المقهى، متفائلين، ينتظران عودة الحياة لطبيعتها سريعاً، فأعداد المصابين لم تتخطَّ الـ300 حالة، في الأسبوع الثالث من مارس الماضي، غير أن قرارات الحكومة فرضت على المقاهي والمطاعم الإغلاق بشكل كامل، وتكتفي الأخيرة بخدمة توصيل الطلبات فحسب، فيما دفعت القراراتُ المواطنينَ للبقاء في منازلهم بدءاً من السابعة مساءً حتى السادسة صباحاً، التزاماً بحظر التحرك، قبل تخفيف ساعاته عدَّة مرات.
كان مشهد القطط إلى جوار المطاعم المغلقة مألوفاً، تنتظر أن يطعمها أحدٌ كما اعتادت في أزمنة ما قبل الإغلاق، لكن وفي ظلِّ تلك الإجراءات غير المسبوقة، كان مواطنون يذهبون خصِّيصاً إلى تجمُّعاتها لإطعامها في ساعات الصباح. وما إن تقترب ساعات حظر التحرك، حتى يختفي الناس من شوارع وسط البلد، وميادينها، والكورنيش والمقاعد المنتشرة على ضفاف النيل، وتقبع «المانيكانات» خلف «الفتارين» في المحال التجارية، تُطل على سكونٍ مخيفٍ لم تعهد المدينةُ مثله.
انتشار «كورونا» صار ملحوظاً، خلال 51 يوماً، منذ أعلن عن أول إصابة بالفيروس في مصر، في الـ14 من فبراير وحتى الـ4 من إبريل الماضي، سجلت مصر 1070 إصابة، ولم تلبث 51 يوماً أخرى حتى أعلنت في 25 مايو الماضي ارتفاع أعداد المصابين إلى نحو 18 ألف حالة، وكان للقاهرةِ النصيب الأكبر من إجمالي الإصابات.
ما بين كونها عاصمة وإقليماً، صارت القاهرةُ «رمزاً للوباء»، سجلت المدينة 30.3% من إجمالي مرضى «كوفيد-19»، بينما كان نصيبها كإقليم نحو 50% من الإصابات، و60% من الوفيات الإجمالية في مصر، بحسب ما أعلنت وزارة الصحة نهاية مايو الماضي. ورغم خُضوع عمارات سكنية وشوارع وقرى في مصر للحجر الصحي، إلا أن ذلك لم يُفرض على أيِّ منطقة بالعاصمة، التي أُغلقت حدائقها ومتنزهاتها ضمن قرارات الإغلاق المتتالية.
الإصابات بالوباء تتزايد، مستشفيات العزل شبه ممتلئة بالمرضى، ظهرت مستشفيات ميدانية يجري تجهيزها، تحولت نُزل الشباب إلى أماكن حجر، وارتفعت نسبة المعزولين منزلياً من المصابين إلى 42% خلال الفترة بين 24 و30 من مايو الماضي، تتولى المستشفيات متابعتهم. بينما كان آخرون يعزلون أنفسهم لدى شعورهم بأحد أعراض «كورونا»، دون كشفٍ أو توجهٍ لمستشفى.
رغم ذلك كان البعض يزورون وسط القاهرة، يحكون عن أيام الزِّحام والونس في «باريس الشرق»، والليالي التي كانت تمتدُّ حتى مطلع الفجر، متطلعين إلى غدٍ للقاهرة لا يعرفون ملامحه بعد، يرجون فقط أن يكون أفضل.
أعداد المصابين كانت تُهدِّد ذلك الرجاء، ولا تبعث على الطُّمأنينة، ففي الـ23 من يونيو الماضي، وقتما أعلن رئيس مجلس الوزراء عن إلغاء حظر التحرك، وعودة المقاهي والمطاعم للعمل بـ25% من طاقتها الاستيعابية، حتى العاشرة مساءً، كان إجمالي المصابين بالفيروس قد بلغ 58 ألف إصابة، وارتفع إجمالي الوفيات إلى 2365، وكان ذلك قبل أن تزيد نسبة إشغال المقاهي والمطاعم لـ50% ويمتد العمل بها حتى الـ12 منتصف الليل بداية من 26 يوليو الماضي.
استبشر مؤمن مدير المطعم، وإسلام عامل المقهى بعودتهما لمحل عملهما، فحياتهما كانت صعبةً في ظل الإغلاق والاكتفاء بخدمات توصيل الطعام فحسب: «فنرجع للقمة عيشنا بنسبة قليلة أحسن ما كنا محرومين منها، ولو على الوباء فربنا يستر» يحكي إسلام، الذي لاحظ مثل غيره من المواطنين «ذُروة كورونا» في يونيو الماضي، حين تجاوزت الإصابات اليومية 1700 حالة، لكن الأعداد انخفضت في يوليو الماضي، وحين حلَّ شهر أغسطس الماضي، كانت مصر تُسجِّل ما دون الـ150 مصاباً في اليوم، وهي الفترة التي سبقت انتخابات مجلس الشيوخ، قبل زيادة المصابين تدريجياً نهاية الشهر نفسه، وفي منتصف سبتمبر الماضي، كان المصريون يترقبون ويتابعون ما ستسفر عنه مرحلة ثالثة لاختبارات سريرية على لقاحين صينيين لفيروس «كورونا».
عاد للقاهرةِ بعضُ صخبها وبريقها، تنفَّست ولو قليلاً، أُزيح شيءٌ من الغمامةِ عنها، احتفل أهلها بعيد الأضحى في شوارعها. دَبَّت فيها الحركة من جديد، بداية من أذان الفجر باتِّجاه المصلين إلى بيوتِ الله، التي أُغلقت لنحو 100 يوم، لم يرفع فيها أهلها أكفَّ الضَّراعة داخل المساجد أو الكنائس، وانتهاءً بصخبٍ وسهر في كل مكان يمتدُّ حتى منتصف الليل.