«متجيش.. الحكومة خلتنا نلم البضاعة».. بهذه الكلمات تلقى «محمود أحمد» نبأ إخلاء ميدان العتبة من الباعة، ما يعني غياب الزبائن، عن أكبر سوقٍ شعبية في مصر، في مشهدٍ نادر لم يكن الشاب يتخيل أن يراه أبداً. ليتخذ بعده قراراً بالعودة إلى مسقط رأسه في محافظة سوهاج، تاركاً القاهرة، وتجارة الملابس إلى أجلٍ غير مسمى.
في طفولته، بدأ محمود العمل على «فرشة» في العتبة، تعلم فيها قواعد البيع والشراء، وعرف أنها قلب التجارة الشعبية، وحين استقلَّ بفرشة خاصة به في مكان آخر، كانت أقدامه تطأُ العتبة يومياً، إما لشراء بضاعة أو الاتفاق على أخرى، حتى كان صباح الـ23 من مارس الماضي، حين تم إخلاء نحو 40 ألف بائعٍ متجول منها وفق رئيس حي الموسكي، تنفيذاً لقرار الحكومة بمنع التجمعات: «في اللحظة دي عرفت إن ده مش هيكون آخر إجراء، فخدت نفسي وقلت هرجع البلد» يحكي ذو الـ30 عاماً، وهو يجمع كل بضاعته من فرشةٍ يملكها.
المصدر: محافظة القاهرة
في العتبة يجد المواطنون كل السلع، بأسعارٍ مختلفة، وجودة متباينة. تنوعٌ يشبه تعدُّد طبقات المشترين من المكان، الذي يصلون إليه من شمال مصر وجنوبها، حتى تضيق الطرق باتساعها، وتتزاحم الأرصفة بتعددها، وكان إخلاء المكان من الباعة كارثياً في رأي الشاب: «لأنه لو قفلت العتبة التجارة الشعبية تعطل».
لا يعرف محمود عن فيروس «كورونا» المستجد، سوى أنه يخطف الأرواح، ويخنق الاقتصاد، ويعرف أيضاً أن أسرةً كاملة مسؤولة منه، وأن رأس ماله الذي يبلغ 40 ألف جنيه سيتأثَّر سريعاً بقرار إغلاق فرشته: «رغم إن الحكومة مجاتش ناحية فرشتي اللي بعيد عن العتبة، بس ده معناه إنها هتتقفل برضه» وكان تخمين الشاب في محله، إذ هدم رجال الأمن فرشته وما حولها من فرش مخالف في شبرا.
لانشغاله في التجارة، لم يعد محمود إلى قريته منذ عامين، وما جلبه الفيروس أعاده إلى قريته بصعيد مصر أخيراً، وغيَّر طبيعة عمله بشكل كبير. في تلك الفترة، كان المشهد في العتبة نادراً، الشوارع الرئيسية والمناطق المزدحمة بالبضاعة والمارة خالية من ذلك كله، تنظر لها «ميرفت عبد الخالق»، المواطنة التي اعتادت شراء مستلزمات منزلها من هناك، قبل أن تنطق: «مين كان يصدق إن ده هيبقى شكل العتبة».
المصدر: محافظة القاهرة
في البداية كان قرار إغلاق المحال التجارية في السابعة مساءً من كل يوم، وإغلاق تام يومي الخميس والجمعة، قبل أن يُسمح لها بالعمل في هذين اليومين منذ مطلع شهر رمضان وإغلاق المحال في الخامسة مساءً، ثم صار الإغلاقُ في السادسة مساءً من 14 يونيو الماضي وحتى الـ26 من الشهر نفسه، كما قرر محافظ القاهرة مُعاقبة المخالفين بغرامةٍ قدرها 20 ألف جنيه. كما حظرت الحكومة حركة المواطنين من السابعة مساءً، قبل تخفيف ساعات الحظر مراتٍ متتالية.
عقب ذلك التخفيف عادت مشاهد الفرش للعتبة من جديد، وإن اختلفت عما كان الوضع عليه قبل «زمن كورونا»، واشتملت البضاعة على أقنعةٍ وقائية وكحول، رغم تحذيرات بأن أكثرها مغشوشاً. بعد عودة مشاهد التجمُّع، أخلت محافظة القاهرة بمساعدة رجال الأمن العتبة من باعة الفرش مرَّة أخرى، ولم يكن محمود قد عاد لعمله بعد، غير أنه وبعد منتصف إبريل اضطر للعودة بما تبقى من رأس ماله، ليتمكن من الإنفاق على أسرته، وكله خوفٌ من رجال الأمن، فبعدما كان الصراع بين الباعة والأمن بسبب المخالفات، صار بسبب التجمعات التي زادت في شهر رمضان.
المصدر: منظمة العمل الدولية
إلى ذلك، كانت بعض المحال التجارية، تُخالف قرار الإغلاق، لا سيما في الأماكن الشعبية، وكانت الشوارع تزدحم بالمشتريين، قبل أيام من عيد الفطر، وفي تلك الفترة حوَّلت بعض المقاهي نشاطها إلى بيع الخضروات والفاكهة والملابس، كذلك فعلت بعض المطاعم، في سبيل البحث عن مكاسب عوضاً عن الإغلاق والخسارة، قبل أن يعودا لنشاطهما: «الناس بتجرب رزقها في أي حاجة، دي لقمة عيش والناس كلها متضررة، وحالنا واقف يوم عن يوم» يحكي محمود الذي كان يخسر أمواله شيئاً فشيئاً، فقد كان ملزماً بدفع إيجار شهري، وديون تتراكم عليه.
كان قرار إغلاق المحال التجارية مبكراً كافياً لخسارة كبيرة تعرَّض لها محمود وبقية التجار، وبسماح الحكومة للمحال بالعمل حتى التاسعة مساءً، في إطار خطتها للتعايش مع الفيروس نهاية يونيو، قرَّر الشاب إعادة صبيٍ كان يعمل معه سابقاً لمساعدته، قبل أن تُمدَّ ساعات العمل حتى العاشرة مساءً بداية من الـ26 من يوليو، قبل أيام من عيد الأضحى الذي يُعدُّ موسماً مهماً لتجار الملابس: «مكنتش هعرف أديله يومية ساعتها، لكن دلوقتي الدنيا ممكن تتحسن لما ساعات الشغل تكتر».
المصدر: المركز المصري للدراسات الاقتصادية
لم تتحسن الأحوالُ كثيراً، الفترة التي سبقت خُطَّة التعايش كانت كافية لخسارة الشاب مكان عمله، بعد عجزه عن دفع إيجاره، تبددت أمواله، وبدلاً من أن يكون صاحباً لمكان عمل يديره بنفسه، اتًّجه للعمل باليومية على فرشة للأحذية والنعال، نتيجة ذلك كله.
صار محمود واحداً ممن يقال عنهم إنهم «على باب الله»، يربحون يوماً ويخسرون آخر، تُقلِّبهم الظروف كيفما شاءت، وعبث بأحوالهم الفيروس ما عبث. أصبح واحداً من العمالة غير المنتظمة، ممن يتقاضون رواتب يومية بحسب ما يتوافر لهم من عمل، فلا تأمين، لا مظلة تحميهم من تقلُّبات الدهر، لا مبلغ مضمونًا آخر الشهر، وإن انطوى على خصمٍ أو جزاءات. يتمنَّى الشاب لنفسه وللآخرين أن تمرَّ الأزمةُ دون أن تعصف بما تبقى من قوتهم، أو تُؤثِّر بشكل أكبر على من يعولون.