عقاربُ الساعة على أحد أرصفة المترو، في إحدى ليالي شهر مارس، تقترب من السابعة مساءً، النِّداء الأخير للقطارات جاء مبكراً، والركاب يتدافعون ويتزاحمون، يصل ذلك إلى مسمع ومرأى «إبراهيم السيد» وهو يقود القطار إلى محطَّته الأخيرة، فإذا ما وصل يصعد ذو الـ58 عاماً إلى منطقة الاستراحة داخل المحطة التي تُغلق أبوابها مع بداية ساعات الحظر، ويجلس نحو عشر ساعات إلى حين تشغيل المترو مرةً أخرى، بعدما فرضت الدولة وقفاً مؤقتاً لوسائل النقل، على خلفية حظر التحرك الليلي.
تتحول القاهرةُ في تلك الفترة إلى «مدينة أشباح»، لا صوت لمحركات المترو ولا القطارات ولا أتوبيسات النقل ولا عربات الأجرة، وبينما يجلس إبراهيم داخل المحطة، يقبع رجال الأمن في الشوارع والميادين الرئيسية، يستوقفون المخالفين، يسمحون فقط للسيارات التي تنقل السلع الغذائية والخضروات بالتحرُّك. مشهدٌ مغاير لما يكون عليه الوضع قبل دقائق من بداية الحظر، إذ تزدحم وسائل النقل بالعائدين إلى منازلهم، في دقائق تُسبِّب شللاً مرورياً على كثير من الطرق، قبل أن يتحول المشهد المزدحم إلى فراغ.
للمقارنة بين الصورتين حرِّك الخط الفاصل
خلال رحلة عمل امتدت لـ33 عاماً، منذ افتتحت المرحلة الأولى من الخط الأول لمترو الأنفاق عام 1987، مرَّ إبراهيم بظروفٍ صعبة كحظر تجوال ثورتي 25 يناير و30 يونيو. تجارب أعطته خبرة كافية ليجهز نفسه لليلٍ طويل، بمأكولات ومشروبات تكفيه وزملائه داخل المحطة خلال تلك الفترة، حتى الخامسة صباحاً حين يعود لقيادة المترو مرة أخرى، وبعد ذلك بنحو أربع ساعات يتحرك إلى منزله في محافظة الشرقية، قبل العودة في اليوم التالي إلى محطة المترو: «ده بيبقى يوم سهرة، ودي طبيعة الشغل فيه»، ورغم ظروف صعبة مر بها الرجل، إلا أنه يعتبر تلك الفترة الأصعب.
كان الوضع مختلفاً قبل ظهور «كورونا»، وإجراءات حظر التحرك، يتوقف آخر قطار بمحطات بداية الرحلة أو آخرها في الثانية بعد منتصف الليل، بعد نقل 3.5 مليون مواطن، ويقضي الرجل بضع ساعات في المحطة حتى الصباح، ثم يعود لقيادة المترو لساعات قبل العودة لمنزله: «لكن دلوقتي ممكن ساعات شغلنا توصل لـ24 ساعة». ومع التدابير الجديدة انخفضت أعداد ركاب المترو والقطارات لمليون و44 ألف راكب يومياً وفق وزارة النقل.
يتسلَّم إبراهيم كماماتٍ طبية وكُحولًا لتطهير يديه، خلال فترة عمله، كذلك يفعل عدد من المواطنين أثناء ركوبهم، وفق احتياطات يستمعون إليها من الإذاعة الداخلية لمحطات المترو، ويرتدونها أثناء ركوبهم المواصلات الأخرى، حتى بات مشهدهم بالكمامة أمراً اعتيادياً، بعدما كان غريباً في بداية الجائحة. ورغم الاحتياطات، أصيب وتوفي زملاء لإبراهيم، من صرَّافي التذاكر والسائقين والعمال، وذلك قبل أن تقرِّر الدولةُ إلزام ركاب وسائل النقل العام والخاص، ومرتادي الأماكن المغلقة كالبنوك والمنشآت الحكومية، والعاملين بالمحال التجارية والأسواق بارتداء الكمامات إجبارياً، بدءاً من 30 مايو الماضي، ومعاقبة المخالفين بغرامة لا تتجاوز 4000 جنيه، ضمن استعدادها لخُطة التعايش مع الوباء.
الوقف المؤقت لوسائل النقل بدأ أول مرة في السابعة مساءً، ثم خُفِّف عدة مرات، لكن وفي أسبوع عيد الفطر الذي بدأ في الـ24 من مايو الماضي، وعلى مدار ستة أيام، قررت الحكومة المصرية إيقافاً تاماً لوسائل النقل الجماعي خلال تلك الفترة، تماماً كما حدث في يوم احتفالات عيد الربيع، لكنها لم تتوقف أيام عيد الأضحى الذي شهدت أيامه انخفاضاً في أعداد المصابين بالوباء: «دي فترات بيبقى فيها انتقالات وزحام وسفر كتير، فكويس إن الدولة فكرت بالشكل ده، لكن في عيد الأضحى الإصابات كانت أقل فاشتغلنا عادي».
للمقارنة بين الصورتين حرِّك الخط الفاصل
تكاد التفاصيل تتشابه بين قائدي المترو وقائدي قطارات هيئة السكة الحديد، فالأخيرة إما تستقر بمناطق الوصول أو تتَّجه إلى الورش لصيانتها في بداية الوقف المؤقت، وفق «محمد الشهالي»، الذي يعمل قائداً للقطارات منذ 26 عاماً: «قرار الوقف الليلي للمواصلات كان ضروري عشان الدولة تقلل اختلاط الناس ببعض». يتقاضى الشهالي وقادة وسائل النقل العامة رواتبهم غير منقوصة، وهي ميزةٌ لا تتوافر لـ«إبراهيم حافظ» سائق تاكسي، فمركبته التي لم تكن تتوقف طيلة الليل، صارت حبيسة الجراج مع بداية ساعات الحظر: «إحنا على الله، محدش بيقبضنا آخر الشهر، فحياتنا متأثرة بسبب ده».
عاد الناس إلى الشوارع قليلاً، قررت الحكومة إلغاء حظر التحرك، وسُمح لوسائل النقل العامة بالعمل حتى منتصف الليل، وإعادة سيرها في الرابعة صباحاً. أمرٌ لن يؤثِّر كثيراً على إبراهيم السيد قائد المترو، أو محمد الشهالي قائد القطار، لكنه عاد ببعض النفع لإبراهيم سائق التاكسي: «بقى فيه حركة وشغل شوية، بنتمنى بس ربنا يحفظنا ومنرجعش بيوتنا بمرض ونعدي أهلنا».
هذا الخوفُ الذي يعتري إبراهيم على أسرته بين الحين والآخر، كان مشابهاً لخوف آخرين، يَخشون وصول الوباء لذويهم، وما بين أسرٍ ظلَّت صامدةً في مواجهة الفيروس باتخاذ كافة الإجراءات الاحترازية، كانت أسرٌ أخرى قد ملَّت دعوات البقاء في المنازل.